جاءت نتيجة الانتخابات الفرنسية، الأحد الماضي، لتثبت ما حاولنا أن نقوله منذ منتصف عام 2016 بأن هناك حركة قاعدية بازغة مضادة لنخب، وأحزاب، وسياسات ما بعد الحرب العالمية الثانية الجديدة...
فلقدنتج عن هذه الحركة تبلور أكثر من 50 تشكيلا سياسيا ومدنيا من خارج الأحزاب التقليدية الأوروبية. لم يقتصر تشكيلها على بلد أوروبى بعينه، أو منطقة بعينها، وإنما انتشرت فى كل أنحاء أوروبا مثل: السويد، والمجر، ورومانيا، وبلغاريا، وفنلندا، وسلوفانيا، وليتوانيا،ولاتفيا، وقبرص، وهولندا، وألمانيا، وإيطاليا، واليونان، والبرتغال، وأيسلندا، وأوكرانيا، وسلوفانيا، وليتوانيا، ولاتفيا، والتشيك، والدانمرك وإسبانيا،...وتنوعت هذه الحركات بين نوعين هما: أولا: الحركات المواطنية الجديدة مثل:بوديموس الإسبانية، والخمس نجوم الإيطالية، وسيريزا اليونانية، وبيرات السويدية، والشعب الرومانية، والواقفون ليلا الفرنسية،...،إلخ. وثانيا: الحركات الشعبوية المتجددة. وهى الحركات التى تختلف عن القديمة فى ثلاثة ملامح كما يلي: أولها أنها وليدة الشارع Street Movements؛ وثانيها أنها لا تعتمد على الزعيم الملهم الذى يلهب حركتها. أما ثالث هذه الملامح أن الشعبوية المتجددة تنقسم إلى اربعة أنواع: الليبرالية، والقومية، والفاشية الجديدة، والراديكالية. وعليه تأسست أكثر من 20 حركة شعبوية متجددة.
والثابت أنه منذ الأزمة الاقتصادية الأكبر فى التاريخ الإنسانى 2008، انطلقت هذه الحركات رافضة ما هو قائم. وأن اغلبها فاز فى أول انتخابات خاضتها بنسب تدور حول 25% وأكثر. وبعضها انخرط فى البرلمان الأوروبي. وأشرنا أكثر من مرة إلى أن ما يجرى فى أوروبا هو عصر جديد من الاحتجاج والتنظيم New Age of Protest & Organization؛...وهو ما دفع البعض إلى صف ما يحدث بأنه تأسيس لزمن جديد. ودفع البعض الآخر إلى وصف الديمقراطية الأوروبية بأنها باتت على الحافة(بحسب دراسة أنجزها الاتحاد الأوروبي)...وفى الحالتين نحن أمام تحولات جذرية فى البنية السياسية والمدنية الأوروبية. وهو ما تجسد فى عبارة استخدمها الكثير من المتابعين الأوروبيين بأن أوروبا وتحديدا فرنسا على أبواب زلزال سياسى وحزبى منذ أكثر من عام.
وهو ما عبرت عنه مجلة الإيكونوميست مطلع مارس الماضى من خلال الملف الذى خصصته حول هذا الشأن ويلخصه ما جاء على غلافها: «الثورة الفرنسية القادمة»...أو ما جاء فى الجارديان بأن الناخبين قد أنجزوا «قطيعة جريئة» مع تقاليد الماضى السياسية. وتعكس نتائج الجولة الأولى التى تفوق فيها مرشحان من خارج السرب الحزبى التقليدى الكثير من مظاهر العملية السياسية الجديدة التى حاولنا أن نلقى الضوء عليها مبكرا انطلاقا من ضرورة ادراك ما يجرى فى العالم وانعكاسات ذلك علينا (راجع مقالنا ماذا يحدث فى فرنسا بالأهرام 11يونيو2016 وسلسلة المقالات المعنونة: «مواطنية جديدة ـــ شعبوية متجددة...وحزبية قديمة» والتى بدأناها من 11فبراير إلى 11مارس الماضي).
ولعل من أهم ما يمكن أن نشير إليه وجسدته نتائج الانتخابات الفرنسية ما يلي:
أولا: موقف الناخبين من التيارات السياسية التى سادت الحياة الحزبية بعد الحرب العالمية الثانية من يسار وسط، ويمين وسط،...،إلخ.
ثانيا: الموقف المعارض للأحزاب السياسية التاريخية ونخبها وألاعيبها. أو «هزيمة أحزاب المؤسسة Establishment،السياسية التاريخية» بحسب الجارديان.
ثالثا: تبلور ما يعرف بجمهور الميدان ـــ وهم من مشارب سياسية متنوعة وينتمون فى الأغلب طبقيا إلى الطبقة الوسطى فما دون وجيليا إلى جيل الشباب ـــ الذين يحملون زخما سياسيا نوعيا يمكنهم من الانخراط فى العملية الديمقراطية والسلوك ككتلة تصويتية غير نمطية وغير محسوب حسابها ومن ثم قدرتها على تغيير قواعد اللعبة الانتخابية المتعارف عليها والفوز على الكتل التصويتية التقليدية.
رابعا: التأكيد أن الحركات الصاعدة بنوعيها: «الشعبوى المتجدد»، و»المواطنى القاعدي» فى صورتهما الحزبية أو الجبهوية أو الحركية، باتت تمثل ما يقارب من 50% من إجمالى الكتلة السياسية الفاعلة والنشطة(حظى ماكرون على 90 و23%، ولوبن على ,42و21). وإدراك أنها تمثل كتلة سياسية جديدة حية. تقبل بالدخول فى قواعد اللعبة السياسية السائدة منذ الحرب العالمية الثانية بغرض تغييرها من داخلها سلميا ووفق العملية الديمقراطية.خامسا: بعيدا عن التصنيف النمطى الحزبى يمكن أن تجد بعض المطالب التى كان يدافع عنها اليسار العمالى تاريخيا محل اهتمام اليمين الشعبوي. كذلك قضية الاقتصاد الوطنى وحمايته يمكن أن تكون محل اهتمام رجل البنوك. كذلك مسألة الضرائب حيث تنحو نحو العدالة الاجتماعية.
الخلاصة، يمكن القول إن ما طرحناه فى فبراير الماضى بأن أوروبا ومن ضمنها فرنسا فى حالة نزوع نحو تأسيس لزمن جديد بفعل الحركات المجتمعية وكتلها المجتمعية الحية الجديدة. وظنى أن الانتخابات الفرنسية قد شرعت البدء بالدخول إلى الزمن الجديد. زمن يتجاوز الجمهورية الخامسة الفرنسية...وهو ما يدفعنا بالتوقف عن التحليلات الظاهرية على اعتبار أن العالم ساكن لا يتحرك، وأن التقسيمات السياسية لم تزل كما هي، وأن الجمهور لا يتغير ويسعى إلى التغيير بشتى الطرق، ,بأسرع ما يمكن. وأننا لسنا بمنأى عن ما يحدث...ما يلزمنا بدراسة ما حولنا وآثاره المحتملة علينا...