تصدر هذا العنوان: «ديمقراطية على الحافة»؛ تقريرا صادرا عن وحدة الأبحاث والمعلومات بمجلة الإيكونوميست العريقة ذات الطابع المحافظ الليبرالي... وذلك فى مطلع 2015. أُعد البحث للإجابة عن سر التنامى المتزايد للحركات الجماهيرية القاعدية فى العالم بشكل عام وفى أوروبا بشكل خاص...
تنطلق الدراسة من ملاحظة كيفية تقول بأن أزمة 2008 الاقتصادية الأسوأ فى تاريخ الانسانية كانت هى اللحظة المفصلية لانطلاق جماهيرى غير مسبوق متنوع التوجهات. إلا أن أهم ما يجمع بينها هو الاحتجاج«...لذا وصفت الدراسة هذه اللحظة بأنها زمن جديد من الاحتجاج New Age of Protest . وقد أكد هذا الوصف أن الدراسة المسحية الشاملة التى أجرتها الدراسة لجميع دول أوروبا قد أثبتت التزايد الكمى من خلال عمليات التصويت فى كل الانتخابات الأوروبية التى جرت خلال الفترة من 2008 إلى 2014 ، فى اتجاه الكتل الجماهيرية المحتجة بتجلييها: أولا: الشعبوية المتجددة(ذات الطبيعة المحافظة والقومية والفاشية والتى تحركها الجماهير أكثر من الزعماء). ثانيا: المواطنية الجديدة(ذات الطبيعة المطالبية والتى تعلى من دور المواطن فى التغيير). وذلك بنسبة لا تقل عن 10%فى المتوسط عن ما قبل. وبزيادة كلية تقترب من الـ35 إلى 40% من إجمالى التصويت.
وتحت عنوان جغرافيا الاحتجاج؛ أثبتت الدراسة أن انتشار الاحتجاجات لم يستثن أى دولة من دول أوروبا... فالشمال الأوروبى الاسكندنافى الثرى شأنه شأن دول جنوب المتوسط. والوسط الأوروبى الغربى شأنه شأن دول أوروبا الشرقية القديمة. بالإضافة إلى المملكة المتحدة. حيث رصدت الدراسة تفصيلا الحركات البازغة فى أرجاء الدول الأوروبية باتجاهاتها الأربعة. كما رصدت هدف كل حزب، وقضيته الرئيسية، وبنيته الهيكلية، ومواقفه السياسية، وتاريخه وتمحوراته وتحالفاته الراهنة. وأخيرا طبيعته الطبقية (وهو أمر يحتاج إلى حديث تفصيلى خاص). ولم تكتف الدراسة بذلك وإنما قامت بدراسة مقارنة للتحركات الجماهيرية لمائة دولة تقريبا فى شتى القارات.
وجاءت خلاصة هذه الدراسة لتشير إلى ما يلي: أولا: يمثل هذا التحرك الكمى والكيفى غير المسبوق من قبل الجماهير «زلزالا سياسيا»، بكل المعايير.زلزال لم يميز بين دولة غنية وأخرى أقل غني. ثانيا: ومقولة أن هذا التحرك الجماهيرى بنوعيه هو مجرد ظاهرة عابرة، سيختفى بمجرد أن تعود أوروبا إلى وضعها الطبيعى قبل الأزمة الاقتصادية ـــ هى مقولة فى غير موضعها.ثالثا: إن ما يحدث يعد إخفاقا للمؤسسات والكيانات والسياسات التى سادت بعد الحرب العالمية الثانية.رابعا: هناك «تهتك» جرى فى ثنايا العلاقة بين النخبة السياسية والكتل الجماهيرية الداعمة تاريخيا وتقليديا لهذه النخب. خامسا: التنصل من قبل الأجيال الجديدة التى تنتمى للطبقة الوسطى من كل ما هو موروث شاع فى القرن الماضى من: أحزاب تقليدية، وأيديولوجيات، وأنماط قيادة، وعلاقات،...،إلخ. ما أدى المحصلة إلى «تهتك» العلاقة بين ما سبق (من كيانات وسياسات) وبين داعميها التقليديين والتاريخيين. وفتح الطريق أمام الحركات الجديدة المتنوعة... ومن محصلة هذه الإشارات فإن الديمقراطية تصبح فى خطر، وتواجه أزمة حقيقية...
سبب هذه الأزمة هو تنامى اللاعدالة؛ وعليه: إذا لم تعكس الحياة الديمقراطية المساواة بحسب معامل جينى (معامل اقتصادى يحدد وضعية المساواة المقبولة والتى تحقق المستوى المطلوب من العدالة للمواطنين وبينهم). ومن ثم يجتهد السياسيون من خلال العملية السياسية بتأمين العدالة بأبعادها فى كل لحظة، وموضع، وخطة، وسياسة، ومؤسسة،...،إلخ. كذلك العدالة بمستوياتها: الطبقية، والاقتصادية، والثقافية، فإن الاحتجاج سيدوم ويستمر ويبدع هياكل جديدة بحثا عن خيارات بديلة.
فالعملية الديمقراطية التى انتجت سياسة وسياسات لا تخدم إلا على القلة وأصحاب المصالح: شبكة الامتيازات المغلقة. عملية لم تعد لها قيمة. ومن ثم بات من حق المواطنين أن يتنصلوا منها، ومن نخبتها، فى اتجاهات تضمن لهم الحضور والشراكة السياسية من جهة، وانتاج سياسات تضمن لهم العدالة والمساواة، من جهة أخري...
وفى هذا المقام تربط الدراسة بين السياسات التقشفية التى اتخذتها أوروبا فى السنوات الأخيرة والدفع بكتل جماهيرية للانصراف عن الديمقراطية التمثيلية بقواعدها القديمة فى اتجاه قواعد جديدة من حيث: التنظيم، والفكر، والتوجه، والحركة،...،إلخ...أو ما يعرف بالديمقراطية التشاركية...
بهذا المعنى تعد الديمقراطية المعاصرة على حافة الخطر...حيث تعكس «الحراكات» الراهنة الإصرار على الوصول إلى هذه الحافة مهما ترتب على ذلك من «عدم استقرار» و«قلق مجتمعى»...ولطالما وجدت إخفاقات اقتصادية إنما يعنى هذا فشل النخبة فى تحقيق ما التزمت به أمام جماهيرها، وتشريعات تتعارض مع مصالح الطبقة الوسطي. فإن الجماهيرستنصرف نحو ابتكار تحركها القادم وما يحتاجه من تنظيم ملائم لضمان بلوغ العدالة...وهذه الظاهرة لن تقف عند حدود أوروبا بل ستنتشر إلى كل أرجاء العالم بدرجات متفاوتة (والدراسة المقارنة تؤكد ذلك)...أخذا فى الاعتبار أن الطبقة الوسطى عالميا تبلغ نسبتها 40%. وهى الطبقة التى تتلقى الصدمة وراء الأخرى ومن ثم يكون إحباطها كبيرا، كذلك تحركها...حيث يمثل الإحباط وقود الحركة خارج ما هو تقليدى ومؤسسى عرفناه بعد الحرب العالمية الثانية...كيف؟...نتابع...