من المتوقع أن يتم انتخاب «الجنرال ميشيل عون»، رئيسا للبنان خلال اليومين القادمين. والحدث تاريخى بكل المقاييس على المستويات: اللبنانية، والعربية، والإقليمية...لماذا؟
بداية لابد من الأخذ فى الاعتبار، أن لبنان يعرف تاريخيا بأنه «المرآة» التى تعكس موازين القوى الإقليمية. وأن ما يستطيع تحقيقه من استحقاقات سياسية هو تعبير عن هذه التوازنات بدرجة أو أخري. ومراجعة ما تم من استحقاقات منذ الطائف فى 1989، سوف يجد مدى الارتباط الوثيق بين هذه الاستحقاقات والقوى الإقليمية فى المنطقة. إلا أن ترشيح “الجنرال عون، لسدة الرئاسة،يعلن عن أن هناك جديدا قد جد على الشأن اللبناني. يتسم هذا الجديد «بالتحرر النسبي»؛ من أمرين هما: الأول: الرعاية الإقليمية للبنان والتى فرضها الطائف، وتابعها اتفاق الدوحة بعد حرب بيروت فى 2008(أو حرب الأسبوع). والثاني: التحرك الطائفى النمطى الحاكم فى اللعبة السياسية الداخلية. أو تحرك الاقطاع الطائفى والمرجعيات الدينية. ما تجلى فى حركة تلاقى صادمة بين كل من: «السيد» (نصر الله)، و«الجنرال» (عون)، و«الحكيم» (جعجع)، و«الابن» (الحريري). وهو التقاطع الذى صدم الواقع اللبنانى وقلب معادلته التى ركن إليها لأكثر من عقدين. وهى حركة تستحق، بالإضافة إلى التقدير لرموزها وصانعيها، إلي: أولا: فهم أهميتها وطبيعتها. وثانيا: فى التأمل قليلا فى لماذا التوافق حول «ميشيل عون»...
أولا: فيما يتعلق بأهمية وطبيعة هذه الحركة. يمكن القول بأن التلاقى بين الرموز الأربعة يعد تسوية تاريخية بين أضداد وخصوم على المستويين المذهبى والديني: المسيحى والإسلامي. فلقد قرأ هؤلاء الخصوم المشهد الإقليمى قيد التشكل. وهو مشهد مأساوى بكل المعايير. حيث ينزع نحو «الفسيفسائية». لذا كان موقف هؤلاء الخصوم بأن «يستبقوا» هذا المشهد بتحصين لبنان، وحماية صيغته التعددية، وأساسها انتخاب رئيس مسيحي.
والأهم أن تكون له شعبية تمثيلية حقيقية ـــ نسبية بالطبع ـــ للمسيحيين. فالتمسك بالرئاسة المسيحية التى تحظى بشرعية ما، وليس برؤساء «الحل الوسط» أو «الحياد». سيجدد، حتما، من معنى لبنان التعددى وصيغته التاريخية المؤسسة على التنوع. كما يمنح الإقليم الفرصة بأنه لم يزل هناك من «أمل» فى مقاومة النزوع المدمر إلى التفكيك والتجزئة. ومن ثم استيعاب التنوع. وبالأخير، إمكانية ممارسة الدور الاستقلالى للنخبة السياسية اللبنانية فى رسم مستقبل لبنان وفق إرادة لبنان واللبنانيين. خاصة أن هذا «الاستباق» مدعوم «بإدراك» سياسى بأن المزاج العام للبنانيين ليس مستعدا لتكرار تجربة الحرب الأهلية الأليمة التى استمرت مدة 15 سنة لحساب الإقطاع الطائفى المدعوم من الخارج.
ثانيا: لماذا التوافق على ميشيل عون. وهنا لابد، بداية، أن نذكر كيف خرج «عون الجنرال العسكري» مهزوما ومنفيا إلى باريس فى 1990. بعد فشله فى مواجهة تداعيات الطائف التى دعمت نشر القوات السورية دون وضع تاريخ يحدد موعدا لانسحابها. وقللت من صلاحيات الرئاسة المارونية لصالح رئاسة الوزارة السنية. خرج من لبنان وصورته التى تم تسويقها هى أنه حاول كسر التوافق التاريخى بين الطوائف. وأنه ليس عروبيا. وعاش لمدة 15 عاما فى باريس. وعاد فى مايو 2005.
وفى هذا المقام أذكر أننى كنت فى لبنان آنذاك ولفت نظرى كيف عاد «عون» إلى وطنه لبنان. عاد الجنرال بحلة سياسية جديدة متجاوزا خلافات الماضى وصراعاته. ممارسا دورا جاذبا لكل الأطراف. معتمدا على قاعدة اجتماعية ـــ لم يتم دراستها جيدا ـــ انتظمت تحت مظلة التيار الوطنى الحر. وتميزت قاعدة عون الاجتماعية ــ فيما أتصور ــ ـبأنها أقرب إلى الشرائح الوسطى والدنيا من الطبقة المتوسطة المدينية بالأساس. وهم مختلفون عن جمهور الأحزاب المسيحية الإقطاعية التقليدية التى تنتسب إلى العائلات التاريخية أو تشكيلات الحرب.جمهور يقبل بالتقاطع مع الآخرين المغايرين.
وعليها، انطلقت تجربة «عون»، الجديرة بالدراسة والتأمل، فى إنجاز مصالحة/تسوية تاريخية.حيث اعتمد استراتيجية “التفاهمات” مع الأضداد التاريخيين أو الأيديولجيين. فكان «التفاهم مع حزب الله» فى 2008. ثم مع تيار المستقبل. وأثناء كل ذلك تم تذويب الثلج بين القوات وبينه. وهكذا ضمن حضورا مسيحيا وشراكة ولو رمزية فى سياق المقاومة من خلال حزب الله. كذلك امتدادا عروبيا من خلال تيار المستقبل. وتواصلا مع باقى الشارع المسيحي. ولم تكن هذه التسوية لتنجح ما لم تستجب لها باقى العناصر وتتفاعل معها حتى لو كان على حساب ابتعاد الحريرى الإبن عن التزامات الحريرى الأب بعض الشيء. أو تعرض الحكيم جعجع لانتقادات من ذوى النفس الطائفى المسيحى الذين يكرهون عون شخصيا.
المحصلة، أن تسوية تاريخية؛ استباقية كما أوضحنا وواقعية قد تم انجازها وفى طريقها لنيل الشرعية الدستورية والقانونية خلال يومين. أظنها تستجيب لكتلة عريضة أو تيار رئيسى يبغى استعادة لبنان الوطن والدولة والمجتمع المدنى من أيدى التجاذبات الطائفية والإقليمية من ورائها. كما تؤكد على رغبة النخبة السياسية اللبنانية فى الحفاظ على نموذجها التعددي...يبقى السؤال إلى مدى يمكن أن تصمد هذه التسوية...نتابع...