في مثل هذه الأيام من كل عام، تعلن الأكاديمية السويدية للعلوم جوائزها السنوية في العلوم والاقتصاد والآداب. وقد دأبت ـــ منذ سنوات ـــ على متابعة ردود فعلنا على هذه الجوائز فلا أرصد سوى الخبر الذي ينقله الإعلام المحلي عن وكالات الأنباء حول الفائزين وانجازاتهم. وأنتظر أية مقالات شارحة تتجاوز المنقول عبر وكالات الأنباء، كذلك أي انعكاسات للأعمال العلمية في سيمينارات الجامعات المختلفة ومناهجها، فلا أجد قط...فيما عدا مجال الأدب.
وإن دل ذلك على شيء يدل على الفجوة العلمية الكبيرة التي تفصلنا عن الحركة العلمية المعاصرة. فعلى مدى يومين أعلنت جائزتا نوبل في مجالي الفيزياء والكيمياء. وتشير القراءة الأولى لحيثيات الحصول على الجوائز إلى اننا أمام تحولات كبيرة في مجالي حركة المواد والجزئيات. ستتيح التحكم حالة المادة والانتقال بها من حالة مستقرة أو طبيعية إلى حالة مطردة الحركة أو فوق طبيعية ما يعني فهم أفضل لمكونات المواد بصورة متناهية الدقة وإطلاق حالات حركية جديدة تكون تحت السيطرة. والأهم إطلاق مواد جديدة من القديمة. إنها ثورة معرفية وعلمية بكل المقاييس. بيد أنها ليست جديدة أو مستحدثة أو عارضة. فالمتابع لجوائز نوبل في الأعوام العشرين الأخيرة، يمكنه أن يلحظ طبيعة مجالات البحث وتنوعها وتوظيفها في خدمة الانسان المعاصر. كذلك التراكم المستمر والممتد من عام إلى عام في إطار الحقل المعرفي الواحد.
وقد يتصور البعض أن البحوث العلمية «النوبلية» ما هي إلا تطبيقات للنظريات العلمية المتعارف عليها. إلا ان المراجعة لكثير من البحوث التي تم تقديرها يدخل في مقام التنظير العلمي. وتقع البحوث التي حصل بها الفريق البحثي هذا العام على نوبل في الفيزياء من ضمن هذا النوع البحثي والذي اعتمد على المعادلات النظرية وتحقيقها. وهو أمر غاية في الأهمية لمسيرة العقل البشري.
ويمكن القول إن جوائز نوبل في كل عام ما هي إلا حلقة في سلسلة طويلة من الانجاز البشري وثمرة جهد علمي يتكون من معادلة من عنصرين هما: «تضاعف المعرفة» و«تجدد التكنولوجيا».
أولا:«تضاعف المعرفة»؛ فإنها تعني الاكتشافات والمعارف الجديدة التي تدركها الإنسانية، مثل: اكتشاف نيوتن للجاذبية مثلا، وكيف أنه فكر تفكيرا مغايرا لمن قبله. حيث، أولا: اعتمد ثقافة التساؤل كمنهج، بمعنى أنه صار يخضع كل ما يراه للبحث عن دلالاته ومعانيه. ثانيا: بات يطرح أسئلة مختلفة غير نمطية من عينة: لماذا لم تسقط التفاحة إلى أعلى؟...وهكذا تم اكتشاف نظرية الجاذبية. وعندما نقول نظرية يعني معرفة جديدة قد تكون صحيحة أو خاطئة لذا تحتاج إلى اختبار مدى صحتها. عندما ننتقل إلى هذه المرحلة يعني هذا اننا بصدد استخراج تطبيقات عملية من هذه المعرفة الجديدة في صورة اختراعات وصناعات،...،إلخ...وهنا ننتقل إلى العنصر الثاني من معادلة التقدم...
ثانيا: «التجدد التكنولوجي»؛ وتعني الكيفية التي تمكن من صناعة وابتكار تقنيات حديثة: أجهزة، ومعدات، أدوية،...إلخ. في ضوء المعارف المختلفة التي يتم اكتشافها...بلغة أخرى الاختراعات والتطبيقات التي أنجزها البشر في ضوء نظرية الجاذبية التي اكتشفها نيوتن. ولاحقا نظرية النسبية لأينشتاين ودورها في انجاز تقنيات حديثة...ويقاس تقدم الأمم بتقلص الوقت الزمني بين كل نظرية وأخرى تالية يتم ادراكها، ومن ثم بين كل تقنية وأخرى لاحقة يتم انجازها...لذا أصبح هناك ما يعرف بدورة تضاعف المعرفة. فالوقت الذي كانت تستغرقه البشرية في إدراك معرفة جديدة يقدر ب150 سنة. أما الآن فلقد باتت تتضاعف المعرفة: أي إنتاج/ادراك معرفة جديدة خلال كل سنة، بشكل عام...وبالتالي أصبحت دورة التجدد التكنولوجي تنتج تقنيات جديدة أكثر من مرة في السنة الواحدة. لذا نرى جيلا وأكثر من التقنيات الجديدة كل عام...
وحتى تتحقق معادلة «تضاعف المعرفة»/ «تجدد التكنولوجيا»؛ نحتاج إلى بيئة حاضنة للعلم والتكنولوجيا. بيئة تتسم بما يلي: أولا لا «تزدري» العلم. وثانيا: لا تكرس «الخرافة»(يمكن مراجعة إعلانات القنوات الفيلمية المجهولة المصدر حول: الربط، وجلب الحبيب، وفك الأعمال،...،إلخ). وثالثا: تحديث متجدد للمؤسسات العلمية والجامعية وفق معايير الزمن الرقمي.(وليس معايير جودة التعليم النمطية التي تم تجاوزها بمراحل)بعيدا عن التعليم بالمذكرات، والتلقين، والبحوث الاجترارية،...،إلخ. ورابعا: وتعلي من شأن التفكير العلمي بمواصفاته الجديدة «الشبكية»؛ وليست الخطية القديمة جدا...
في هذا المقام، نشير إلى تجربة الهند في توطين العلم والتكنولوجيا لديها منذ مطلع الستينيات بمبادرة رؤيوية من نهرو. وهي التجربة التي أوصلت الهند بأن توصف بأنها «أمة من العباقرة» وعوضت الفجوة المعرفية بينها وبين العالم المتقدم. واستيعاب العلوم المستحدثة (وقد عرضنا لهذه التجربة تفصيلا في مقالات سابقة). وقد لحقت بها: البرازيل، وتشيلي، وماليزيا، وتركيا،...،إلخ.
في هذا السياق، يمكن أن نلحق بالعالم الجديد. وأن نخرج ــ بحسب توفيق الحكيم «من الكهف التي ننتظر فيها الفجر»...ذلك لأن «الشمس في كبد السماء» ساطعة ومشعة ومشرقة...عندئذ فقط لن تكون جوائز نوبل مجرد خبر...نتابع...