هل حصار مصر أمر لا يستحق الاهتمام إلى هذا الحد... سؤال ممزوج بالغضب والانزعاج والقلق يتملكنى منذ صباح الأحد الماضي...
ففى هذا اليوم نشرت جريدة الأهرام على رأس الصفحة الافتتاحية الثانية(صفحة 3) نصا هو خليط من: الخبر المُدقق، والتحليل للوضع الراهن، والبيان الإعلامي. عنوانه: «تفاصيل خطة قوى خارجية لفرض حصار على مصر»... ومضمونه: «مُفزع ومتنوع»...وبالرغم من تطمينات النص بأن «القيادة السياسية لديها علم كامل بمخططات القوى الخارجية على الساحة الدولية وتتعامل مع الموقف وفقا لتلك المعطيات ونجحت مصر فى احتواء آثار بعض الخطوات التى تستهدف حصار مصر سياسيا واقتصاديا» وهو أمر طبيعى ومتوقع. إلا أن الغضب والانزعاج والقلق بقيت معى فى سؤالى الذى كنت أكرره مع كل من أحادثه: زهل حصار مصر أمر لا يستحق الاهتمام؟. وأقصد ــ تحديدا ـــ من قبل السياسيين والمثقفين والفاعلين المدنيين والكتاب،...،إلخ. ألا يحتاج الأمر قدرا من الاهتمام. خاصة أن «خطة الحصار» تمس، فى واقع الأمر، مصر «المواطنين» فى حياتهم اليومية.
وفى مثل هذه الحالات لا يكفى أن تقوم السلطة وحدها بمهمة مواجهة الحصار. فهو أمر طبيعي. لأنه لن تتحقق النتائج المرجوة ما لم تتضافر القوى الوطنية، والتيارات الفكرية على اختلافها لمواجهة الحصار المُخطط. فى إطار من الشراكة الوطنية. هكذا تقول لنا الوقائع المتعاقبة فى تاريخ مصر الحديثة التى بدأت مع عمل مسافة بينها وبين الباب العالى فى اسطنبول. ونجحت بالفعل فى إنجاز استقلال فعلى وعملى بالرغم من الإطار القانونى الذى فقد شرعيته الواقعية مع الزمن. وانطلقت تبنى مشروعا يقوم على ثلاثة محاور كما يلي: الجيش الوطني، والجهاز الإدارى الحديث، ومؤسسات الحداثة المتنوعة. وهنا عرفت مصر حصار محمد على ومشروعه النهضوى من قبل عدة قوى. الذى واجه الحصار بعيدا عن أى مساندة من المواطنين. ما عجل بانزواء الشخص والمشروع.
كذلك تعرضت الرأسمالية الوطنية البازغة فى الثلث الأول من القرن العشرين لنفس الحصار. لقد كانت نتاج البدء فى تمليك المصريين الأرض الزراعية. ومع مرور الوقت شرعت فى إطلاق صناعات وطنية. ولكن ما لبثت أن تعرضت أيضا «للحصار». ويعد طلعت حرب نموذجا مثاليا فى هذا المقام. حيث خاض معركة من أجل انشاء صناعة نسيج مصرية تحت بنك مصر، اول بنك وطنى مصري. وكانت المعركة التى واجهها طلعت حرب تقوم على الحصار. وتمثل فى الآتي: مؤامرات دبلوماسية، ضغوط من القوى الكبرى، تصعيب الحصول على مستلزمات الانتاج... إلخ. وقد واجهت الرأسمالية الوطنية الحصار فى غيبة السلطة التى كان هواها فى مكان آخر.
ومع الاستقلال الوطنى واجه ناصر عملية حصار كبرى، خاصة بعد تأميم قناة السويس. إلا أن ما مكنه من تجاوز الحصار هو موقف المواطنين فى رفض الحصار. وهنا مربط الفرس. ان خطة الحصار لا يمكن مواجهتها ما لم يحدث استنفار وطنى فى مواجهة الحصار. يتشارك فيه الجميع مع السلطة من أجل مواجهة الحصار بأبعاده.وهذا ما قصدته عندما كتبت، مطلع الصيف الحالي، حول الحصار الاقتصادى تحديدا ـــ الذى تتعرض له مصر. واستدعيت تجربة الحصار الاقتصادى عقب تأميم قناة السويس، وعزوف الرأسمالية المصرية أو القطاع الخاص عن المساهمة فى بناء اقتصاد وطنى مستقل. فما كان من السلطة إلا أن أسست ما يعرف «بالمؤسسة الاقتصادية» فى مواجهة حصار الداخل والخارج. وهو ما اقترحته فى المقال المذكور مستلهما التجربة التاريخية لمواجهة الحصار الراهن الذى أشرت إليه ـــ مطلع الصيف ــ وأكدته الأهرام الأسبوع الفائت. بالطبع ليس المطلوب استنساخ التجربة التاريخية ولكن فقط ابتكار آلية معاصرة وفق رؤية واضحة قادرة على الاستجابة المبدعة للتحديات والأخطار والمخططات المختلفة.
وعليه فإن نقطة البدء، فيما أظن، تبدأ من تقوية الداخل. وذلك من خلال إطلاق حوار مجتمعى وفق جدول أعمال صارم يربط بين المفاهيم الأساسية وتطبيقاتها فى الواقع. والمثال العملى الذى يعبر عن ما سبق هو ما طرحه سمير أمين العالم العالمى فى مقاليه حول: مفهوم السيادة الوطنية (بجريدة الأهرام 12/7و2/8 على التوالي). ففى هذين المقالين، قدم سمير أمين، نموذجا عمليا فى كيفية وضع الرؤية وتجسيدها فى بنى المجتمع المختلفة لتحقق الصالح العام للمواطنين. فالسيادة الوطنية ليست عبارة إنشائية. كما أن اختزالها فى شعور عاطفى وسلخها من مضمونها المجتمعى يجعلنا فى خطر عام يهدد الكيان الوطنى ما يضر الغالبية من المواطنين بالضرورة. ما يعنى أنه لا سيادة وطنية حقيقية ما لم يكن لدينا: أولا منظومة صناعية متكاملة. وثانيا: حالة زراعية متجددة. وفسر ما العلاقة بين المفهوم واستحقاقاته. وقديما حدد عبد الله النديم «الصناعة والتعليم» باعتبارهما المدخل إلى الاستقلال والتقدم.
أيا كان الأمر، أتمنى أن تكون هناك آلية تنسيقية تعنى بشرح عناصر الحصار بشكل علمي. وتفتح الحوار الوطنى حول كيفية مواجهته فى ضوء التحولات الداخلية: السياسية، والاجتماعية، والثقافية. كذلك الإقليمية والدولية...وبالمناسبة أين الأحزاب...ونتابع...