على مدى أسابيع ثلاثة حاولنا الاقتراب من ظاهرة التوترات الدينية التى زادت وتيرتها فى الشهور الأخيرة.من حيث...
أولا: تاريخية العلاقات بين المصريين من المسيحيين والمسلمين. وارتباط قوة العلاقات أو ضعفها بالسياق المجتمعى العام. فبقدر مايكون هناك نهوض وطني، تقوى العلاقة، والعكس صحيح. هكذا كانت قبل الدول الحديثة واستمرت بعدها. ونُذكر أننا لم نرصد فى الفترة من 1919 إلى 1969 إلا توترين دينيين. أحدهما قبل 1952 والثانى بعدها.
وثانيا: طبيعة المسار المتوتر وتحولاته؛ الذى مررنا به مع تعثر مشروعنا التنموى منذ مطلع السبعينيات. ما جعل المسار المتوتر يطول وتتعدد مراحله، وتتداخل، وتتشابك من:عنف، واحتقان دائم، وسجال ديني، وأخيرا تناحر قاعدي. وتجلى لنا بوضوح، من خلال الدراسة، أن جغرافيا التوتر الدينى تمركزت فى المناطق الأكثر فقرا والأقل تنمية. وأن أسباب وأشكال التوتر الدينى قد تجاوزت تقرير العطيفى (1972)التاريخى بمراحل. وقد أوجزنا الأسباب فى إحدى عشرة ملاحظة ورصدنا تسعة أشكال للتوتر فى مقالنا الأخير.
فى ضوء ما سبق، أظن أننا فى حاجة إلى آلية تتعاطى مع الوضع المتوتر بشكل علمى يتجاوز التربيط الودى بين بعض الأطراف على حساب جوهر إشكاليات التوتر، والتسكين الوقتي، والتسويف غير المبرر، والحلول العثمانية،...،إلخ.
والآلية التى نقترحها تتكون من ثلاثة عناصر أساسية: العنصر الأول: يتمثل فى تكوين ما يعرف بآلية للإنذار المبكر. وقد طرحها صديقنا العزيز المفكر الكبير نبيل عبد الفتاح مبكرا. وقد عملت على دراسة تفاصيل الفكرة فى أكثر من دولة، وعلى مكونات هذه الآلية وحركيتها وطريقة تشغيلها. ويمكن إجمالا أن نوجز مهمتها في:التنبيه عن احتمالية حدوث التوترات قبل حدوثها. وبخاصة فى بؤر التوتر المعروفة تاريخيا أو التى لها سوابق فى التوتر. ومن ثم وضع خطط استباقية ووقائية تمنع أو تحول دون حدوثها.
أما العنصر الثانى فيتمثل فى آلية تجمع بين الدراسات ذات المقاربات المتعددة والتدخلات الميدانية المجتمعية «Interventions» وتهدف الدراسات إلى تعميق الملاحظات التى رصدناها فى مقالنا السابق (11 ملاحظة وغيرها من اجتهادات الآخرين). وفى هذا المقام يمكن أن نخرج بالدراسات التالية على سبيل المثال: دراسة أولى تعنى برسم خريطة للتوتر الدينى وأسبابها. ودراسة ثانية ترصد مظاهر التمييز الدينى فى المجال العام وأسبابه. ودراسة ثالثة تهتم بالتمييز الدينى فى الخطابات الإعلامية والثقافية والدينية. ترسم لنا خريطة اللاعبين القدامى والجدد، وأنماط التحالفات وطبيعة الصراعات التى تنشأ بين هؤلاء اللاعبين وأثر ذلك على تعقيد/تيسير إشكالية العلاقات الإسلامية المسيحية فى مصر. وفى الوقت نفسه بلورة أكثر تفصيلا لأشكال التوتر التسعة من حيث: وضع تعريف علمى دقيق لكل شكل، وملابساته، وتداعياته على الواقع، وطريقة التعاطى معه. فما ينشأ عن مشاكل التحول الدينى يختلف عن الأطروحات الفقهية الفاسدة والشاذة. كما تختلف الآثار المترتبة على السجال الدينى عن آليات الضغط على الدولة بممارسة العنف الدينى أو فرض اتاوات على الأقباط،...،إلخ.
وفى دراسة أولية تشاركت فيها مع أستاذنا الخبير التنموى نبيل كامل مرقس حول المؤشرات المحددة لنوع التدخل، استخلصنا سبعة مؤشرات منها ما يتعلق: أولا بغياب فرص التنمية الاقتصادية الداعمة لقيم العدالة الاجتماعية. وثانيا بغياب الخدمات والانشطة الشبابية والثقافية الداعمة لقيم الحداثة والتنوير والاندماج الاجتماعى (مركز شباب، قصر ثقافة، سينما، روابط نوعية، نادى انترنت، مكتبة عامة،...،إلخ).
وثالثا: وجود تيارات دينية ذات طابع متشدد ولها ارتباط بمراكز تأثير من خارج المجتمع المحلى. ورابعا: توافر تاريخ سابق من وقائع التوتر الدينى تفتقد إلى المعالجة المجتمعية الشاملة. وخامسا اختفاء أى دور للقيادات المحلية الطبيعية ذات الوزن الجماهيرى وذات التوجه الفكرى المتوازن والمعتدل القادرة على امتصاص ومعالجة عناصر التوتر الديني. وسادسا ضعف فاعلية أجهزة الإدارة المحلية الشعبية والتنفيذية فى احتواء ومعالجة أحداث التوتر الدينى فى النطاق المحلي. وسابعا توافر حالة من الحرمان متعددة الأوجه (بحسب مبادرة جامعة أوكسفورد)، منها: حرمان من المياه النقية، وحرمان من شبكات الصرف الصحي، من أنواع التأمين المتنوعة، من التعليم الأساسي،...،إلخ. وتعين هذه المؤشرات فى وضع التدخلات الملائمة والتى يمكن من أن تجمع بين أكثر من مستوى ومجال فى إطار شامل.
ونصل إلى العنصر الثالث والذى يتمثل فى أمرين هما: أولا:وضع حزمة من الخطط ذات الطابع الاستراتيجى فى مجالات الثقافة والتعليم والإعلام تحديدا. والتى يمكن ترجمتها ثانيا إلى سياسات دائمة قابلة للتطبيق من الوزارات المختلفة. ويمكن بلورة أربعة عناوين حاكمة لهذه الخطط والسياسات كما يلي: الاعتراف، شراكة التاريخ والمصير،التمكين، الدمج.