فى عدد الإيكونوميست الصادر فى 29 يونيو من عام 2013، أى قبل يوم واحد من 30 يونيو، نشرت المجلة على غلافها لوحة بديعة تلخص «مسيرة الاحتجاجات العالمية الكبرى فى التاريخ الانسانى الحديث والمعاصر». وفى داخل العدد خصصت المجلة مساحة لمعالجة موضوع الغلاف... فما هى أهم الأفكار التى جاءت فى هذا الملف؟
بداية، حدد الملف أن هناك اربعة مفاصل احتجاجية كبيرة عرفتها الانسانية وذلك كما يلي: انطلقت الأولى فى أوروبا عام 1848، والثانية فى كل من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا فى 1968، أما الثالثة فقد خرجت من الاتحاد السوفيتى فى 1989، وأخيرا، وبدءا من 2013، امتدت الاحتجاجات إلى كل ربوع العالم دون استثناء.
وقبل الدخول إلى مضمون ما جاء فى تحليل المجلة لهذه الاحتجاجات، نشير إلى غلاف العدد لدلالته الرمزية البالغة الأهمية والذكاء. حيث يرمز لاحتجاجات 1848 (التى كانت نقطة ذروة لكل ما أعقب الثورة الفرنسية) بعلم فرنسا الرمز الرسمى للثورة تاريخيا والذى تحمله سيدة فى يد وتحمل بندقية فى اليد الثانية. أما احتجاجات 1968 فرمزها شخصية من «الهيبيز» حيث يحمل المولوتوف فى يد ويحمل الزهور فى يده الأخري. أما لحظة 1989 فيرمز لها بشكل واضح بالزعيم العمالى «فاونسا» الذى يحمل شمعة فى يده اليمنى و«مفتاح التروس» فى يده اليسري. وأخيرا يأتى تصور المجلة لنموذج الاحتجاجات الراهنة حيث يقدم فتاة تحمل «محمولا» فى يدها اليمنى و«كوب النيس كافيه الكرتون» فى يدها اليسري. وتعلق حقيبة يد على كتفها الأيسر حيث تتدلى الحقيبة نفسها على الجانب الأيمن.
أظن أن اللوحة بالغة الدلالة وذكية. ذلك لأن مضمونها يعكس ما يلي: أولا: طبيعة التحولات التى مرت بها البشرية على مدى 165 عاما. وثانيا: طبيعة التحولات الجارية. وثالثا: ما الفرق/الفروق النوعية بين ما جرى فى الماضى وبين ما يجرى فى الوقت الراهن.
ففى عبارة مركزة ودالة يقول محرر المجلة واصفا الاحتجاجات الراهنة بأنها: موجة من الغضب تجتاح العالم، وتحديدا مدن العالم. قوام هذه الاحتجاجات: الطبقة الوسطى والشباب. وجوهر الغضب يبدأ من الأشياء الصغيرة إلى ما هو كبير وحيوي. فلم يعد الغضب يرتبط بمطالب البروليتاريا أو الطبقة العمالية حصرا. وإنما بالحياة الإنسانية ـ تفصيلا ـ وجعلها أكثر احتراما Decent. كما لم يعد الغضب يرتبط بالبلدان الأقل تنمية أو الأكثر فقرا بقدر ما أصبح يتعلق بحالة إنسانية لها معايير لا يمكن التنازل عنها. ويعدد الكاتب عدد ونماذج هذه الاحتجاجات التى طالت كل بقعة من بقاع العالم، ومن ضمنها مصر، ولم تزل. ونوعية الغضب وتمثلاته المختلفة.
نتجت هذه الموجة بفعل «التنامى المتزايد للطبقة الوسطى كما ونوعا». ومن ثم توقعاتهم فى إمكانية أن تتاح لهم «الشراكة» فى عملية صناعة القرار من جهة. وفى عملية تراكم الثروة من جهة أخري.
كما يلفت الكاتب النظر إلى أن القوة الضاربة لهذه الطبقة الوسطى هى الشباب. التى بفعل تقنيات التواصل الاجتماعى باتت قادرة على التعبئة، ووضع فلسفة الاحتجاج وأهدافه وأشكاله والأهم تطبيقاته على أرض الواقع والتى تكون غير نمطية وأقرب إلى ابتكارات الموضة أو بحسب لغة الشباب «افتكاسات» جديدة. دون الحاجة إلى مبان أو مكاتب أو أى هياكل تنظيمية متعارف علها تاريخيا.
إنها ما أُطلق عليه، الكتلة الحية الجديدة؛ التى لم: يعد، أولا، يُشبعها أو يقنعها نظرية تساقط ثمار النمو. لأنهم يريدون أن يكونوا شركاء، أو يجدوا لهم مكانا، فى الاقتصاد والسياسة. كما لم يعد، ثانيا، يقنعها إعادة تدوير/تسويق «البضاعة» (القديمة) من شعارات ومؤسسات وسياسات وممارسات الفاشلة والتى عجزت عن أن تضمن لهم حياة كريمة وعادلة وحرة.
لقد استطاعت الكتلة الحية الجديدة التى تقاوم السياسات الاقتصادية المجحفة من جانب. وترفض المؤسسات القديمة الظالمة من جانب آخر، وان تحدث خللا فى منظومة فقدت صلاحيتها... إنها لحظة حقيقة. تدور فيها معركة تاريخية بصورة ناعمة. بين هذه الكتلة الحية الجديدة وقوة محافظة:مالية ودينية، تحاول تثبيت اللقطة التاريخية دون تغيير.
إلا ان الواقع ينم عن أن التحول أقوى من تسكين الأوضاع. ففى بحث حول تفاعلات الحملة الانتخابية الأمريكية بين مرشحى الحزبين الكبيرين، لوحظ ما يلي: أن داعمى ترامب فى الأغلب ينتمون سنيا إلى مرحلة متوسطى العمر وأعلي. فى المقابل نجد أن 70% من مؤيدى ساندرز يقعون تحت سن الثلاثين...وهى نفس السمة التى تتميز بها الحركات الشعبية التى تعرضنا إليها خلال المقالات السابقة مثل: البوديموس الإسبانية، والخمس نجوم الإيطالية،...، إلخ. إن هذا الحضور الجاد لصغار السن من الطبقة الوسطي، الرافض ـــ بنقاء ـــ للسياسات الاقتصادية المجحفة ولسيطرة القديم من أهم ما يجب أن الانتباه إليه فى معرض اقترابنا من الحركات الشعبية... ونتابع...