ما جرى فى البرازيل فى الأسابيع الماضية، جد، خطير. وأظنه يمثل ضربة إجهاضية لتجربة تنموية تاريخية خاضتها البرازيل فى محاولة جادة للتحرر: السياسي، والاقتصادي، والثقافي. وتكمن أهمية انجاز البرازيل التاريخي، فى أنها أعطت الأمل والمثل فى إمكانية أن تصعد دولة من دول العالم الثالث فى التصنيف الكونى للدول من أدنى السلم إلى أعلاه فى ما يقرب من ثلاثة عقود. وأن تنجح فى أن تجد لها مكانا بين الكبار.
فالصراع الجارى الآن من خلال اتهام رئيسة البلاد بالفساد ــ وتعليق رئاستها لمدة زمنية لحين انتهاء التحقيق فيما نسب إليها ــ لا يمكن الدفاع عنه، إذا ثبت عليها. ولكن الإشكالية تكمن فى توظيف الاتهام ـــ وبحسب المتابعين ــ لإجهاض التجربة الاقتصادية والديمقراطية البازغة، ليس فقط فى البرازيل وإنما فى عديد من دول القارة اللاتينية. ويبدو أن الضربة الإجهاضية لا يقتصر توجيهها على القوى المحافظة فى الداخل البرازيلى وإنما يشاركها التوجيه قوى خارجية محافظة...ولكن لماذا الضربة الإجهاضية؟ وممن؟ للإجابة عن ما سبق، علينا أن نعود إلى الوراء قليلا.. استقلت البرازيل عن البرتغال فى مطلع القرن التاسع عشر، ولكنها سرعان ما وقعت فى فلك سطوة الولايات المتحدة الأمريكية وفق ما يعرف فى أدبيات العلاقات الدولية «بمبدأ مونرو».
وهو المبدأ الذى أرساه الرئيس الأمريكى جيمس مونرو سنة 1823. وأُعتبرت بموجبه القارة اللاتينية «الفناء الخلفي» لأمريكا. ولم يلبث أن لوح الرئيس الأمريكى تيودور روزفلت سنة 1905 بما عرف «بسياسة العصا الغليظة» «Policy of Big Stick» لكل من يفكر من الاقتراب منها. وفى القلب من هذه الحديقة: البرازيل التى تمثل مساحتها 47%من مساحة القارة كما تضم 35% من إجمالى سكانها. وكان من نتاج السياسة الأمريكية أن باتت البرازيل فى تبعية تامة لأمريكا، ما أدى إلى فشل عمليات التنمية المحلية الوطنية البازغة فى الخمسينيات.
فى هذا السياق، انحازت السياسات الاقتصادية البرازيلية للأثرياء وللرأسمال الأجنبى حيث تم التخلى عن الاهتمام باحتياجات عموم الشعب. ووقعت البرازيل ـ أكبر دول القارة اللاتينية ـ فى فخ الديون، والتضخم، والبطالة، والركود، والنمو البطيء.وعرفت أحياء الصفيح...كما اختبرت نظاما استبداديا ممتدا، واضطرابات مستمرة. وحتى تخرج البرازيل من الحلقة الخبيثة وتنجز تحولا ديمقراطيا فعليا مرت ــ بحسب أحد الباحثينالذين درسوا التحول الديمقراطى فى البرازيل ــ فى ست مراحل انتقالية منذ منتصف الستينيات وحتى مطلع الألفية الثالثة.
وتعد نقطة التحول الحاسمة للبرازيل، عندما اتبعت «روشتية» الاقتصادى الكبير كاردوسو فى مطلع الثمانينات. وتم إعداد دستور للبلاد يعد نموذجا لما أطلقت عليه دساتير الموجة الرابعة فى سلسلة مقالات فى هذا المكان قبل عامين. حيث تمكنت البرازيل أن تنطلق انطلاقتها الكبرى مع لولا دى سيلفا. وذلك بتحقيق متوسط معدل نمو سنوى لإجمالى الناتج المحلى تجاوز ال10% خلال العقد الأول من القرن الحالي. كما استطاعت البرازيل تمويل البنية التحتية اللازمة لتحسين التنمية البشرية. ووفقا لتوقعات صندوق النقد الدولي، من المتوقع أن يبلغ إجمالى الناتج المحلى للبرازيل ما يقرب من 3268 مليار دولار فى العام 2017. وتراجع من هم تحت خط الفقر من 20% إلى 6%. وبالرغم من الأخذ باقتصاد السوق إلى أن العدالة الاجتماعية كانت موضع عناية شديدة كذلك السياسة الضريبية وتفعيل قانون مكافحة الاحتكارات،...،إلخ.
فى ضوء ما سبق، استطاعت أن تصبح البرازيل القوة الاقتصادية الأولى فى القارة اللاتينية.(35% من سكان القارة، ومساحتها تمثل 47% من مساحة القارة) ما مكنها أن تتحرك إقليميا ودوليا. وأن تصبح نموذجا يحتذي. وأن تدخل فى تحالفات عابرة للقارات مثل «البريكس». ويبدو أن التحرك المستقل قد شجع دول القارة على أن تحاكيه. ما مثل تحديا استراتيجيا للولايات المتحدة الأمريكية.
وعلى الرغم من أن التجربة البرازيلية كانت فى إطار التحرر من النموذج النيوليبرالي، وإن يساريتها نسبية. إلا أن ذلك لم يرح نخبة اليمين المضاد للعدالة الاجتماعية فى الداخل البرازيلى كذلك لهفة اليمين الأمريكى فى تجديد سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على دول الفناء الخلفى مرة أخرى لأسباب متعددة.
فالمتظاهرون ضد الرئيسة الحالية لا يطالبونها بمزيد من الحقوق والمكاسب الديمقراطية والتقدم الاجتماعي. وإنما يعبرون فى الواقع عن أصحاب المصالح التقليدية من تجار وقدامى الاقطاعيين وبعض رجال الدين المحافظين الذين قاوموا حركة لاهوت التحرير. إنه «تحالف طبقة الكريول القديمة».(راجع دراستنا تجربة لاهوت التحرير فى أمريكا اللاتينية).
الخلاصة إن الصراع الراهن فى البرازيل لا ينبغى التوقف عند ظاهره وإنما إلى ما يخفيه وما سيترتب عليه من تداعيات سيكون لها الأثر الكبير فى كثير من المواضع فى العالم...هل هو محاولة لمد عمر النظام الرأسمالى النيوليبرالى بعد إخفاقاته المتعاقبة؟ وإحياء اليمين المحافظ فى حصار الصيغ الاقتصادية/الديمقراطية البازغة؟ وهل سيكون هذا هو جزاء من يحاول التحرر؟...هذا ما سوف تجيب عنه الأيام القادمة...أخذا فى الاعتبار ما يحدث فى فرنسا فى نفس الوقت...ونتابع..