«إن تاريخ الرأسمالية لا يعيد نفسه، لكن الرأسماليين يكررون أفعالهم».. بهذه العبارة استهل صديقى حوارنا الذى اتفقنا أن نخصصه حول مستقبل الرأسمالية.. ولم يمهلنى وقتا للتعقيب، حيث استثمر الوقت الذى أخذته فى تأمل هذه المقولة، ليطلق العديد من الأسئلة منها: «ألم يحن الوقت بعد لإعادة النظر فى ما فعلته بنا الرأسمالية فى طبعتها النيوليبرالية التى انطلقت مع نهاية السبعينيات؟ وألا يكفى ما يقرب من مائتى أزمة مالية ـ اقتصادية دراماتيكية على مدى أربعة عقود لمراجعة الخيارات والسياسات الاقتصادية الكونية والمحلية؟ ولماذا العجز عن التصدى لكل من «السيطرة الصامتة» للمؤسسات المالية العالمية والشركات الاحتكارية، و»التحالف الناعم» بينهما والذى أدى إلى إخفاقات كبرى مأساوية؟ بإيجاز ألم تسقط القداسة عن الرأسمالية؟
قلت لصديقي، وكأنك تقرأ أفكارى عندما عرضت فى الأسبوع الماضى عن الخطر الكونى رقم (1) «العدالة الغائبة»...ما أدى إلى انطلاق موجة معرفية ـ عرضنا بعضا من عناوينها ـ تعتمد على نقد الرأسمالية المعاصرة ومراجعة الكثير من عناصرها المختلفة. موجة تعكس زخما معرفيا وعلميا يعلن عن ميلاد نموذج معرفى جديد غير الذى عشناه عبر أجيال. يقوم هذا النموذج على التمرد على ما دأب الرأسماليون على تكراره تاريخيا بأن الرأسمالية هى النموذج المثالى الذى يجب أن يحتذي. إلا أن النتائج المادية الواضحة والملموسة التى أوصلتنا لها ـ هذه الرأسمالية تشير إلى أى مدى هى مدمرة، ذلك لأنها أنتجت واقعا رديئا خماسى الأبعاد نرصده كما يلي. أولا: الإفقار المتنامى للغالبية من البشر بطريقة مخططة ومنهجية. وثانيا: الإثراء المطرد للقلة الثروية. وثالثا: التراجع المؤذى عن توفير التأمين الاجتماعى اللازم للفقراء. ورابعا: انتشار التفاوت بين المواطنين للدرجة التى تجعل الهرم الاجتماعى يتسم «بطرف مدبب» يعبر عن القلة الثروية، و»قاعدة مليارية» تشير إلى الغالبية من سكان العالم الفقراء. وخامسا: إضعاف كل التنظيمات التى تقوم بدور تفاوضى أو رقابى أو محاسبى أو ضاغط لتقليل الآثار السلبية للرأسمالية وبخاصة منذ الأخذ باقتصاد السوق.. ما استدعى وقفة نقدية معرفية علمية للمراجعة، تُسقط القداسة عن الرأسمالية كمنظومة تتكون عناصرها من عقل مركزي، ومؤسسات عالمية، وشركات عابرة ـ متعدية للحدود والجنسيات، وأنظمة سياسية تابعة، وإعلام شبكى كونى يتلاعب بالعقول.. إلخ. وهو ما تعكسه أدبيات نقد الرأسمالية الراهنة.
لهذا تركز كل المراجعات على فكرة «اللامساواة» أو ما أطلقنا عليه الأسبوع الماضى «العدالة الغائبة». وكيف أن تاريخ الرأسمالية وتطبيقاتها المتعاقبة لم يكن إلا «تاريخ إنتاج اللامساواة» وهو ما أثبته بيكيتى فى كتابه العمدة المثير للجدل والنقاش «رأس المال فى القرن الواحد والعشرين». والأهم ـ بالنسبة لنا ـ ليست اللامساواة الاقتصادية فلها من يعرض لها من حيث تقنياتها الدقيقة. وإنما كيف بفعل اللامساواة الاقتصادية اختلت موازين العدل فى شتى الأبنية بين البشر: اجتماعيا، وسياسيا، وثقافيا، ليس فقط فى الدول الفقيرة بل فى الدول الغنية ذاتها. وأليس رجوع الصراع بين السود والسلطة فى أمريكا مجددا هو أحد تجليات التفاوت المجتمعى فى قلب المركز الرأسمالى الكونى وعدم قدرته على استيعاب مسألة التمييز اللونى بعد كل هذه العقود(وهو أمر يحتاج منا أن نعود إليه تفصيلا مستقبلا)، بل الأكثر هو الكشف عن مجتمع يتم تصنيف مكوناته «إثنيا» بامتياز بحيث يكون الأجدر هو الأبيض الأنجلو سكسونى البروتستانتى النقي. وليس صدفة أن تتركز الأموال عند أهل الجدارة.
إن أحد أهم الحقائق التى كشفت عنها الأزمة المالية ـالاقتصادية الأبرز فى تاريخ الرأسمالية هو هذا الانفصال الحاد بين الذين يبشروننا ـ المنتفعون ـ بمزايا اقتصاد السوق وعوائدها، وهم القلة، وبين غالبية البشر الذين عليهم القبول باقتصاد السوق والترويج له دون الاستفادة بما «يتقطر» لهم من القلة (أى يسقط لهم قطرة قطرة ـ بالقطارة بحسب التعبير الشائع).
فى هذا المقام، بات العقل الإنسانى يراجع ما فعلته ـ ولم تزل ـ بنا الرأسمالية. فيرى أولا: المصلحون؛ بضرورة تأسيس نظام مالى جديد، وإصلاح شامل للقوانين انطلاقا من أن الرأسمالية لا تستطيع أن تفى بشكل طيب بوعدها بالتقدم والازدهار إلا إذا كان المشاركون فيها يكفلون نظاما قانونيا فعالا وسلطة قضائية أمينة، وقانون عقود نافذ المفعول، وخدمة مدنية (بيروقراطية) مجردة من أى غرض، وسكا عصريا للدفاتر، وسجلات ملكية دقيقة، ونظاما رشيدا وعادلا لتحصيل الضرائب، ونظاما تعليميا ناجحا(غير موجه لخدمة النيوليبرالية).. إلخ.
أما الراديكاليون؛ فيرون أن الرأسمالية إلى زوال لأن التناقضات التى طالتها كثيرة وعميقة. وأن أزماتها المتلاحقة كانت مؤثرة ولكن تم التعتيم عليها واحتواء آثارها المدمرة. ومن ثم فإنها تسير فى طريق النهاية.. وفى هذا السياق يصدر ديفيد هارفى كتابه الأخير ويرصد فيه سبعة عشر تناقضا تعجل بنهاية الرأسمالية فى طرح غير مسبوق يؤكد سقوط القداسة عن الرأسمالية وأن هناك مساحة متاحة للابتكار فى هذا المقام لابد من إدراكها بفهم هذه التناقضات ومن ثم استثمارها.. ونتابع.