ما جرى فى المنطقة من أحداث على مدة السنوات الأربع الأخيرة كان له صدى كبير فى الكتابات الغربية على اختلاف مستوياتها. لم تكن هذه الأحداث عابرة،
أو بحسب ما يحاول البعض ـ لسبب أو لآخر ـ أن ينقص منها بوصفها بأنها نتيجة مخططات ومؤامرات بالكلية، أو تطبيق النظريات النمطية عليها بشكل ميكانيكي، وعليه التقليل من آثارها الكبيرة وما أحدثته من تحولات لافتة. والأخطر من دأب على التسفيه من شأن كل فعل وطنى ذاتى من أجل التغيير.
ويبدو أن الفعل الشعبى كان ضخما ـ وربما مباغتا ـ لدعاة الاستقرار. وعليه استعصى ما جرى على الفهم والادراك من قبل الكثيرين. لذا ينازعون فى مقاومة ما نتج من تغيرات وتبدلات. ولا يريدون التحرر من أسر تحيزاتهم وتصوراتهم التى رسموها عن الواقع تحت عنوان كبير هو: "الاستقرار"؛ الذى تبين أنه وهم كبير فى ظل تحولات مذهلة لم ندركها على مدى عقود.
المفارقة أن دوائر البحث والسياسة والإعلام الغربية قد أبدت اهتماما كبيرا لما جرى فى منطقتنا. بشكل عام، وفى مصر، بشكل خاص...وقد تنوعت هذه الكتابات فى مقارباتها ومعالجاتها واستنتاجاتها وتوقعاتها للمستقبل. ويمكن القول أنه قد تكونت حصيلة معرفية وتحليلية متنوعة وغزيرة على مدى السنوات الأربع الماضية حول ما أصطلح على تسميته "الربيع العربي". وفى مقالنا اليوم سوف نلقى الضوء على نوعية حصاد هذه الكتابات، وتصنيفها تصنيفا علميا ييسر للقارئ والباحث العربى فهم خريطة الاجتهادات التى تناولت ربيعنا العربي. على أن نتناول بعض من أهم هذه الكتابات ـ على حدة ـ لاحقا فى مقالات تالية. فى هذا المقام يمكن أن نرصد ثلاثة أنواع من الكتابات وذلك كما يلي: أولا: الكتابات التقريرية الإعلامية. ثانيا: الكتابات البحثية. ثالثا: الكتابات السياسية.
أولا: الكتابات التقريرية الإعلامية: وهى نوعية من الكتابات تعتمد على المتابعة الميدانية من قبل كوادر مدربة تدريبا حرفيا عاليا على متابعة الحدث والمهارة فى توثيقه بالصورة والتعليق والتعقب الدقيق للوقائع والاختيار الصائب للعناصر التى يتوجهون لها فى تصويب ما هو معلن، أو اجلاء بعض ما هو مخفى فيما يقع. ويكون هدف هذه النوعية من الكتابات توفير أكبر قاعدة معلومات ممكنة للقارئ، بقدر الامكان...وفى هذا السياق يمكن أن نشير إلى كتاب الصحفية التونسية رابحة عاطف الصادر بالفرنسية فيما يقرب من 300 صفحة فى 2011: "ميدان التحرير: ثورة لم تتحقق بعد". كذلك إلى كتاب: "مصر التحرير: ميلاد ثورة، الصادر بالفرنسية للصحفيين كلود جيبال وتانجى سالون.(ترجمة عاصم عبد ربه حسين إلى العربية وصدر عن المركز القومى للترجمة). وقدم الكتاب فى طبعته العربية علاء الأسوانى قائلا:"...عرفت المؤلفين شخصيا وأعجبنى فيهما اهتمامهما البالغ بمعرفة ما يحدث فى مصر وميلهما إلى اكتشاف الحقيقة بدون الخضوع لأية افكار مسبقة".
ثانيا: الكتابات البحثية: وفى هذا المقام شهدت المكتبة الغربية العديد من الكتب التى قاربت حراك يناير من زوايا عديدة وبشكل منهجى وتحليلى متميز. ويمكن رصد ثلاثة أنواع من التناول فى هذه النوعية من الكتابات. النوع الأول: وهى الكتابة التنظيرية المجردة مثل بعض الدراسات التى نشرتها دورية اليسار الجديد حول فكرة الكتل الجماهيرية ودورها فى إحداث التغيير. أو الكتاب الهام والمميز لكارن روس المعنون: "ثورات بلا قادة". الذى يلقى الضوء حول الجماهير التى سوف تمتلك القوة فى إحداث التغيير السياسى فى القرن الحادى والعشرين. (لا ننسى هنا دراسات مراكز الأبحاث الأمريكية على اختلاف انتماءاتها ودوريات منها "ناشيونال انترست"). النوع الثاني: وهى الكتابة التحليلية الرأسية التى تناولت الأحداث بالتحليل العميق فى ضوء موازين القوى وعناصر المعادلة السياسية والقوة المجتمعية والطبقية،...،إلخ. ونشير هنا إلى كتاب جلبير الأشقر: “الشعب يريد: بحث جذرى فى الانتفاضة العربية". كذلك إلى: "الشاب العربي: الحراك الاجتماعى فى أزمنة الخطر". أما النوع الثالث من الكتابات البحثية فهى التى تدخل فى مجال أدبيات: "التحول الديمقراطي"، وهى تختلف جذريا عن أدبيات الديمقراطية الكلاسيكية. فأدبيات التحول الديمقراطى معنية بالأساس بتجارب التحول الديمقراطى بتنويعاتها. ونذكر هنا اجتهادات فيليب شميتر والإسبانى تشارلز باول وقد حضرا إلى مصر ودرسا ما جرى بعناية بالغة. ونشير إلى محاضرة باول التى ألقاها فى مصر عن تحديات التحول الديمقراطى التى تواجهها مصر(ألقاها مطلع 2014).
ثالثا: الكتابات السياسية: وهى الكتابات التى تبحث فى مجريات الأحداث فى ضوء الاستراتيجيات والخطط السياسية للكيانات والإدارات السياسية والأجهزة المختلفة. وهنا نعيد التذكير بكتابى كيسنجر الذى عرضنا له على مدى ثلاث حلقات خلال ديسمبر الماضي، ومن قبله مجلد فوكوياما الذى قدمناه على مدى أربع حلقات لقاريء الأهرام الكريم حيث وضعا الربيع العربى فى مقام الثورات التاريخية وتناولها كل منهما من منظور الاستراتيجية الأمريكية حول المنطقة...
الخلاصة، لاقى 25 يناير الاهتمام والدراسة العميقة فى الكتابات الغربية...وأظن ماكينة البحث والدراسة سوف تستمر دائرة على مدى وقت غير قصير...وسوف نتناول أهم هذه الكتابات...ونتابع..