"راجعت بعض كتاباته مؤخرا...وكم وجدت فيها من سحر وجمال واندهشت هل عبرت هذه العواطف المشبوبة علينا أثناء حياته دون أن نلتفت إليها جيدا؟...ألا ما أعجب تلك البيئة المدهشة التى تنتج لنا نفائس فكرية كلما قلبناها فى أيدينا تجلت لنا أنوار مذهلة فى جمالها الفريد"...
كلمات لا أنساها للمثقف الكبير الراحل الأستاذ أحمد عباس صالح يصف فيها مشروع لويس عوض الفكري. ويبدو أن "النسيان" هو مصير الأفكار التى أبدعتها عقول مصر العظيمة التى اجتهدت من أجل أن يكون لهذا الوطن شأن ومكانة. أفكار متى يستعيدها المرء يجدها كم هى ثرية وملهمة. وهذه هى سمة الأفكار الأصيلة والأصلية أنها تبقى حية ومتجددة...
كان مشروع لويس عوض الفكرى يتسم بملمحين أساسيين هما: الشمولية والموسوعية. فلم يكن مشروعه مشروعا متخصصا فى موضوع بعينه، وإنما كان صاحب مشروع ثقافى شامل. وكان يعد امتدادا لرائد التنوير المصرى جدنا الطهطاوي. إنها مدرسة التأصيل للحداثة والعصرنة والعدالة والحرية...لذا فالمراجع لأعمال لويس عوض سوف يجدها مقاربات ابداعية فى مساحات معرفية متنوعة من اللغة والتاريخ وعلم الاجتماع والسياسة والإبداعات الفنية المتنوعة والأساطير والفلسفة،...،إلخ...ولتعريف القارئ بأهم أفكار مشروع لويس عوض الثقافى سوف نختار ثلاثة خطوط أساسية من هذا المشروع الثري: الأول: رؤيته لتاريخنا القومي... والثاني: محاولته للإجابة عن من نحن؟...وأخيرا مفهومه عن الإنسانية الجديدة...
أولا: تاريخنا القومي: كانت 5 يونيو 1967 نقطة انطلاق نحو معرفة ما الذى جرى لمصر وللمصريين؟ وكان هذا يعنى لدى لويس عوض أنه لا سبيل إلى تشخيص الحاضر إلا بدراسة تاريخنا القومي. وتبدأ الكتابة التاريخية لديه بكتابة "تاريخ الناس"، قبل كتابة "تاريخ الفكر". فالناس منهم نبع وفيهم صب هذا الفكر. لذا أعطى أولوية لتاريخ المجتمع المصري. ذلك لأن فكر الانسان وفلسفاته ليست إلا تعبيرا عن حركة التاريخ وأداة المجتمع فى التعبير عن تناقضاته وعن غاياته. لذا لم يكتب لويس عوض عن تاريخ الملوك والحكام وإنما عن تاريخ المجتمع المصرى وعن عوامل البناء والهدم فيه. وفى هذا المقام أفاض لويس عوض فى ملاحظاته التى تقترب من أن تكون قواعد علمية حاكمة للتاريخ منها فكرة الدورات التاريخية المتعاقبة من الصعود والهبوط التى يتعرض لها التاريخ المصري...فى هذا السياق طرح لويس عوض هذه الأسئلة: ما مصر؟، وما نحن وما هى قدراتنا وماهى عوامل الشلل ووجوه النقص فينا؟ وما مكونات حضارتنا؟ وما هى مصالحنا الأساسية والفرعية والطارئة؟ وما هى قوى التقدم والتخلف فينا؟ وما هى الحقائق وما هى الأساطير فى تاريخنا القومى واليومي؟ هل نحن نسيج وحدنا أم أن القوانين الاجتماعية التى تسرى على الأمم الأخرى تسرى علينا؟...إلخ. قدم لويس عوض إجابته تفصيلا فى عدة مجلدات تحت عنوان تاريخ الفكر المصرى الحديث تعد نموذجا فى الإجابة التاريخية...
ثانيا: من نحن: فى مطلع سنة 1978 أطلق توفيق الحكيم دعوته الشهيرة من أجل حياد مصر. وكانت هذه الدعوة فرصة لأن يدلى كثيرون بدلوهم حول المسألة القومية. وكان هذا الأمر بالنسبة للويس عوض فرصة لأن يقدم نقدا لمن يتستر وراء اللغة كستار دخان لتجنب ما لا يريد الافصاح عنه. كذلك تفنيد الأساطير التى الفنا تسويقها. وأخيرا محاولة الاجتهاد العلمى حول إشكالية الهوية بعيدا عن الجدالات السياسية. فكان المرجع الأهم فى هذا المقام ألا وهو: "دراسات فى الحضارة". فلقد كانت فرصة فى إعادة النظر فى الكثير من المفاهيم وفق جديد العلم آنذاك. مفردات من عينة القومية، العرقية، العنصرية، والثقافة القومية، والحضارة، والوطن، والسياق الجغرافى السياسي،...،إلخ. كذلك الاجتهاد من خلال الدراسات المقارنة مع القومية الآرية والجذور العرقية،...،إلخ. بالإضافة إلى الدراسة المستفيضة حول قومية الأمة، كلها مثلت جهدا وطنيا خالصا للحالة المصرية المركبة، أظنها خلخلت بعض من الأساطير التى بدأ تداولها لأغراض سياسية نهاية السبعينيات من القرن الماضي. أنه جهد يليق أن يكون محل نقاش دائم لأنه يؤسس لثقافة وطنية مصرية تحمينا من "التوهان" بحسب أنور عبد الملك.
ثالثا: الإنسانية الجديدة: جوهر الإنسانية الجديدة، لدى لويس عوض، الحب والحرية...الحب كطاقة ابداعية خلاقة ودائمة...والحرية التى تحرر الانسان من الانغلاق على نفسه فلا يرى إلا نفسه وما يؤمن به ويظن أنه صحيح بالمطلق وغير قابل للمراجعة...الانسانية الجديدة ـ بحكم التعريف ـ ضد كل ما هو استبداد مهما اتشح بسلطة أو عقيدة،...،إلخ.
حاولنا أن نقدم بعضا من أفكار لويس عوض الثمينة التى اجتهد فى بلورتها على مدى عمره. لويس عوض هو أحد البنائين الكبار فى الثقافة المصرية. ومثله مثل الكبار(جمال حمدان وعبد الرحمن بدوي...)تعرض للكثير من المحن وتلقى الكثير من اللكمات تحت الحزام...لكن تبقى الأفكار والمشروعات الكبرى والتى أظن أنه أصبح من اللائق أن تكون فى قلب التيار الفكرى المصرى الرئيسى على تنوعها...إنه وقت مراجعة مشاريعنا الفكرية الكبرى من أجل المستقبل...ونتابع...