(1)
بعد أن طرح المفكر الكبير نبيل عبدالفتاح أسئلته البحثية عن أسباب جمود الفكر الدينى فى كتابه المكثف والهام «تجديد الفكر الدينى ـ المركز العربى للبحوث والدراسات 2015».. والذى يستجيب لحاجة تاريخية ولمطلب سياسى ينسجم مع التحولات السياسية الجارية. يتابع بحثه شارحا بدقة العلاقة الملتبسة بين السياسة والدين. وأثر كل منهما على الآخر، مؤكدا على أن «الطغيان يولد القمع المادى والفكرى والفقهى»، بسبب «تماهى بعض الفقه والإفتاء والمفتين مع السلطان، وميلهم معه حيث يميل أيا كانت وجهته أو تناقضه»، من جهة، وإطلاق «مطاردات» تستهدف «الفقه والفكر الدينى الحر» من جهة أخرى. كما يتتبع «محاولات الخروج من الفقه السلطانى وتوظيفه للآلة الفقهية والتأويلية لصالح مصالح وأجواء هؤلاء»، ما «أثر على مسارات العقل الفقهى، أهم إنجاز للثقافة والحضارة الإسلامية مع بعض
الفكر الكلامى».. ما أدى إلى «قفل باب الاجتهاد»، ومن ثم «الجمود والركود التاريخى، وأثره العقلى وعدم مواكبة أسئلة ومشكلات المجتمع».. كذلك عدم القدرة على مواجهة «فقه تنظيم القاعدة الراديكالى، ولا أيديولوجيا التوحش لدى داعش وسواها، ولم يكن له تأثير على مسارات «التطرف الدينى» ومنظماته،…». بالرغم من تأكيد مفكرنا الكبير على مسارات تفتحت فى مصر شبه الليبرالية وفوائضها فى ظل نظام يوليو 1952 من عينة الشيوخ الأجلاء «عبدالمتعال الصعيدى، ومحمود شلتوت، ومحمد عبدالله دراز،،…،إلخ…والذين ألهموا بعضا من مفكرى الإسلام السياسى الذين حاولوا الفكاك من الجمود والركود التاريخيين.
(2)
وفى تأكيد حاسم، يُرجع نبيل عبدالفتاح، التسلطية الدينية، إلى التسلطية السياسية. فتشكيل العقل الدينى التسلطى ـ الإسلامى والمسيحى ـ قد ساد «لاعتبارات تتصل باستمرارية توظيف النخبة الحاكمة ـ على اختلاف مصادرها ومكوناتها وشخوصها ـ للدين فى العمليات السياسية، وفى بناء نظام الشرعية، وفى التعبئة والحشد السياسى، وكجزء رئيس من منظومة التبرير للسياسات والقرارات…». فالعقل «التسلطى السياسى والدينى يكملان بعضهما بعضا». وفى إضاءة هامة حول تداعيات هذه العلاقة على إعاقة التقدم. يبدع عبدالفتاح فى رسم صورة تفصيلية لطبيعة «العقل التسلطى»، وكيفية تشكله، وتجلياته الدينية. فيقول عن العقل التسلطى إنه مجموعة من «العمليات والآليات الذهنية ومعها مجموعة من الإدراكات النفسية والرمزية ومنظومة من المعايير الآمرة التى تدور حول بعض الثنائيات الضدية، أو ما يعدوها،…ونتاج لسياسات التنشئة الاجتماعية والسياسية الأبوية التقليدية، والمحدثة التى تكرس مفاهيم الانصياع والامتثال والخضوع والازدواجية والأقنعة المتعددة والتعايش مع الضغوط والأوامر السياسية، وأساليب القمع المادى والأيديولوجى والرمزى. كذلك نتاج سياسات القوة والتعبئة، والحزب الواحد»…مكونة «بنية سياسية تسلطية» تدعمها «بعض أنظمة التعليم ومناهجه على اختلافها التى تكرس الحفظ والتكرار والكليشيهات الأخلاقية، والسياسية، والدينية،…،إلخ، ما يشكل فى النهاية «عقلا دينيا نقليا جامدا. يعيد إنتاج المفاهيم الجامدة التى لا تواكب العصر ومستجداته»….ويعرض لنا المؤلف تفصيلا للسياسة الدينية المحافظة بأنواعها فى عهدى السادات ومبارك…
(3)
ويرصد المؤلف ما استجد من متغيرات والتى كانت وراء استمرارية الجمود فى الفكر الدينى واضطراب ما يصفه «بالأسواق الدينية». يطرح علينا فى ضوء حاجة المجتمع إلى التجديد والتحرر من الجمود «سياسة دينية تجديدية». ويقصد بها: مجموعة القيم الأساسية والأهداف والغايات التى ترمى إلى تجديد الفكر والتعليم الدينى والمدنى والمناهج والمؤسسات الدينية والمنظمات الدينية الطوعية ـ الأهلية. والاستراتيجيات العملية التى تؤدى إلى تحقيق هذه القيم وآليات العمل والتنفيذ. بما يصل بنا فى النهاية إلى منظومة قيم دينية تجديدية…يرصد المؤلف عددا منها.
(4)
وبعد، فإن تجديد الفكر الدينى؛ يلزمنا بأن نمارس مجموعة من «العمليات العقلية والاجتهادية، شاملة وجزئية تؤسس لنظريات ومفهومات واصطلاحات وقراءات تفسيرية وتأويلية للأصول تستجيب لمقتضيات العصر والحاضر والمستقبل الآتى. بهدف تحريك الحيوية والإبداع الفكرى الإسلامى ليشارك ويؤثر فى مسارات الإبداع الإنسانى، وقيمه الكبرى التى نتجت عن تطور المعارف والعلوم والتقنيات وثوراتها المتلاحقة»…ويحدد المؤلف سبعة عناصر كإطار حاكم لعملية التجديد الذى يؤدى إلى «بناء جديد» لا «تجديد البناء»؛…تحية لنبيل عبدالفتاح على دأبه وأطروحته العميقة والرصينة والرشيقة…ونواصل…