(1)
برشاقة وعمق، يجسدان خبرة السنين وما تراكم خلالها من معارف. يجدد المفكر الكبير نبيل عبدالفتاح، محاولته الأثيرة فى مقاربة إشكالية تجديد الفكر الدينى. فلقد دأب نبيل عبدالفتاح، منذ مطلع الثمانينيات، على معالجة هذه القضية، قبل أن تصبح محل اهتمام من قبل الكثيرين. وتحديدا منذ كتابه البكر: «المصحف والسيف: صراع الدين والدولة فى مصر ـــ 1984». وذلك من خلال كتاب يحمل عنوانا مباشرا هو «تجديد الفكر الدينى»؛ من إصدار المركز العربى للبحوث والدراسات ـ 2015، دون أية عناوين جانبية شارحة أو تفسيرية أو مكملة للعنوان الرئيسى.
ما يحمل رسالة واضحة ومباشرة بأن: قضية تجديد الفكر الدينى لم تعُد فى حاجة إلى المزيد من التفاصيل أو المقدمات، فلقد باتت تفصح عن نفسها من خلال خطابها الجامد، وأولوياتها التى لا تواكب العصر، والإخفاق فى إحداث التجديد المطلوب على مدى عقود. ما جعلها باتت مزمنة وملحة وفى حاجة إلى «ثورة» كما تعبر القيادة السياسية.
(2)
فى هذا السياق، يجدد نبيل عبدالفتاح السؤال: «لماذا الجمود فى الفكر الدينى؟ وخطاباته على تعددها ومجالاتها المختلفة؟ وأسباب الاستمرارية التاريخية للظاهرة الممتدة. والأخطر سؤال التجديد الذى أعيد إنتاجه؟…وانطلاقا من السؤالين التأسيسيين السابقين، يبدأ المؤلف فى إيجاز ـــ غير مُخل ـــ فى ضبط المصطلحات وبعض المفاهيم الذى وصفها بأنها «سائلة» من كثرة استخدامها دون ضوابط.. فيعمل على تدقيق مصطلحات من عينة: «الخطاب»، و«التجديد». وما الفرق بين «التجديد» و«الإصلاح». قام المؤلف بهذه المهمة بلغة مكثفة ومركزة للغاية ومحصنة بمصادر معتبرة. ويخلص إلى ما يلى: تجديد الفكر الإسلامى، هو تجديد أولى فى بنية العقل الإسلامى يرمى إلى إحداث تحولات فى نظم التفكير والمقاربات المنهجية وآليات التفكير والبحث والمقاربة تستهدف إعادة النظر فى بنية الموروثات الفقهية والافتائية، وذلك بهدف تطوير وتجديد العلوم الإسلامية النقلية والكلامية، وإعادة النظر فى دراسة هذه العلوم من منظورات متعددة، والسعى إلى مقارباتها تاريخيا وسياسيا وسوسيوـ ثقافيا. إن المسعى التجديدى يرمى إلى طرح الأسئلة والإشكاليات الجديدة ومساءلة الإجابات القديمة، وإعادة المسألة، بهدف تحريك الجمود العقلى، والنقلى، ومواجهة أسئلة العصر المعولم وما بعد الحديث وما بعدهما من خلال الاجتهاد العقلى والشرعى والفلسفى والسياسى،…، إلخ.
(3)
ومن أجل تحقيق الهدف من الكتاب: «تجديد الفكر الدينى»، يتطرق المؤلف إلى أزمة جمود الفكر الدينى (على الجانبين الإسلامى والمسيحى)، تاريخيا. وكيف أنها غير منبتة الصلة عن: أولا: الأزمة المعرفية والعقلية العامة التى تعانى منها البلاد. وثانيا: الواقع السياسى المضطرب وغير المستقر منذ سنوات. ويشير المؤلف، إشارة سريعة إلى كيف أن قدرًا من الحيوية السياسية التى شهدتها مصر وتونس ـ على سبيل المثال ـ قد فرضت استجابة مؤسسية «حذرة» لما يحدث، تجلت فى وثائق الأزهر الشريف والتى كانت حصيلة نقاشات جادة بين الأزهريين والمثقفين.. ولكن وبفعل الجمود التاريخى وحصار العملية الثورية وتمدد الخطاب الدينى الإقصائى، ظل الفكر الدينى يراوح مكانه. ما يعكس عمق الأزمة وتعدد مستوياتها.. ما يحتاج إلى فهم لماذا وصلنا إلى هذا الحد من الجمود بعد انطلاقات «ألمعية» لمولانا الشيخ حسن العطار وجدنا الوطنى الكبير رفاعة رافع الطهطاوى.. ومن ثم لجأ نبيل عبدالفتاح إلى المدخل التاريخى لمعرفة لماذا وصلنا إلى هذا الجمود الكبير، إن جاز الوصف. بالرغم من أن الدولة الحديثة فى مصر قد أتاحت اختبار مسار فكرى دينى تحديثى متميز..
(4)
يحاول المؤلف الكشف عن: «ما وراء الجمود الفكرى»؛ الذى أدى إلى عدم القدرة على مواجهة أسئلة العصور الجديدة والمتغيرة وإشكاليات التحول النوعى الكبير فى إطار عالمنا المعولم، الذى لم تعد الإجابات النمطية كافية لفهمه ومواكبته.. فى هذا المقام يشير المؤلف إلى التسلطية السياسية القمعية التى حالت دون خروج الاجتهاد من أسر السلطان وتوظيفاته الدينية لتبرير السياسات، وهو ما دلل عليه المؤلف فى الكثير من المواقف التى جرت فى القرن العشرين وإلى الآن.. ومن جانب آخر أثر العقل السياسى الإخوانى والسلفى/ فى تثبيت الجمود. وهو ما جرى على الجانب المسيحى أيضا.. ما فتح السوق الدينية على مصراعيها وباتت بديلا للمجال العام السياسى والمدنى بين المواطنين.