(1)
هتافات المواطنين، فى كل زمان ومكان، تعد مرآة عاكسة للواقع وما آل إليه.. ليست الهتافات مجرد شعارات موزونة ومقفاة.. وإنما هى «قطرات دماء تتفاعل فى داخل المواطنين، وتسرى فى العروق والشرايين، وتنطلق عبر الحناجر والأفواه، لتعبر عما بداخلهم من معاناة إنسانية ومجتمعية من جراء الإهمال والنسيان والإقصاء والظلم والقهر».. تخرج الهتافات لتتلقفها الجموع وترددها، دون النظر إلى من صاغها أو أول من رددها، ذلك لأنها بمجرد أن يتم ترديدها معبرة عن تطلعات الملايين من المواطنين تصبح ملكا لهؤلاء الملايين،
ويتم حفظها فى الذاكرة الوطنية، باعتبارها من إبداعات الجماهير. وتصبح هذه الهتافات مع مرور الوقت تجسيدا لنضالات الشعوب وتضحياتها التى يستحيل أن تنسى.. ومن ثم تحرص المجتمعات الحية على تسجيل كل ما من شأنه أن يحفظ الذاكرة التاريخية للأوطان لتقديمه للأجيال المتعاقبة للتعلم والتوجيه والتقدم إلى الأفضل.. ويكفى أن نشير إلى الدراسات التى عُنيت بتسجيل هتافات الطلبة فى فرنسا 1968، وبالشعارات التى كانت تكتب على الجدران والتى عبرت عن «غضبة جيل»، آنذاك. وكيف كانت ملهمة للكثير من الدراسات فى شتى المجالات.
(2)
فى هذا السياق، سعدت جدا بالجهد الكبير الذى بذله الأخ العزيز الدكتور كمال مغيث فى جمع «هتافات المواطنين فى حراك 25 يناير وتمرد 30 يونيو»، فى كتاب- من القطع الكبير يقترب من 500 صفحة- بعنوان: هتافات الثورة المصرية ونصوصها الكاملة. الذى صدر عن المجلس الأعلى للثقافة، مؤخرا.. وحول القيمة الثقافية والتاريخية للهتافات يقول مغيث: تعد الهتافات توثيقا وتسجيلا للأحداث التى يمر بها الوطن، وللقوى الاجتماعية الفاعلة فى تلك الأحداث، وللقضايا الاجتماعية والسياسية المختلفة، وعلى مستوى الحياة الاجتماعية، فهى تعتبر مصدرا للكثير من المعارف.. هذه الهتافات التى هى فى الأصل نمط من أنماط التعبير الاجتماعى والسياسى الشفاهى للشعب المصرى.. ولأن الهتاف شفاهى وابن لحظته الزمنية، تأتى صعوبة جمع الحصيلة النهائية لهذه الهتافات وتصنيفها والبحث فى دلالتها أو ما وراء كل هتاف.. لذا فإن ما قام به كمال مغيث فى جمع نصوص غير مدونة أو موثقة، وتم تداولها عبر أوقات وأماكن متعددة، حتما، يعد عملا كبيرا بكل المقاييس.
(3)
وعبر عشرة فصول، يعرض لنا الأنواع المختلفة للهتافات التى يرددها الناس فى: المدرسة، والمحاكم، وملاعب الكرة، والانتخابات… إلخ. كما يذكرنا بهتافات شكاوى الفلاح الفصيح، وشهداء المسيحية، والصامتين، التى كشف عنها العالم سيد عويس فى الستينيات. ثم يعرض لنا أهمية الهتاف وكيفية تبلوره فى الواقع أثناء التظاهر أو الاعتصام أو الإضراب. ثم يبدأ فى استعراض البداية التاريخية للهتافات السياسية منذ العصر العثمانى فى 1517 حيث انطلق المصريون فى جماعات يهتفون: يارب يا متجلى أهلك لنا العثمانلى، وباشا يا باشا يا عين القملة.. مين قال لك تعمل دى العملة، وباشا يا باشا يا عين الصيرة.. مين قال لك دبر دى التدبيرة.. وواصل مغيث تتبعه الهتافات حتى ثورة يوليو 1952، ثم من 1952 إلى 2011.. ومن الفصل الخامس إلى العاشر، يركز المؤلف والباحث على هتافات يناير 2011 وما بعدها.
(4)
قبل أن يعرض المؤلف لهتافات يناير. يصف الميدان وأيامه بعوالم من السحر والنبل والإبداع. خاصة فى الفترة من 25 يناير إلى 11 فبراير. فلقد كان الميدان بمثابة «مدينة فاضلة». كما كانت الهتافات نتاجا ابداعيا نقيا.. وعليه تنوعت الهتافات كما يلى:
أولا، فى إيقاعات متعددة، تارة من خلال مقاطع صغيرة تردد بجماعية بلا قائد هتيف، غالبا ما تبدأ بها مجموعة صغيرة ثم تنداح كالموجة إلى باقى المجموعات حتى يهدر بها الملايين مثل: «ارحل.. ارحل.. ارحل»، و«عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية»، و«مش حنمشى.. هو يمشى»، «الشعب والجيش إيد واحدة»، و«استمارة 6.. استمارة 6».
ثانيا، إيقاع يعدد فيه الهتيف موضوعاته، بينما يوحد المتظاهرون ردهم، مثل: «حسنى مبارك.. باطل، مجلس شعب.. باطل»، «التوريث.. باطل»… إلخ. ويطور «الهتيفة»، ثالثا، إيقاع الهتاف، فيصير أكثر تركيبا، حيث يشمل بيتين كاملين أو أربع شطرات، مثل رباعيات صلاح جاهين. من هذه الهتافات نذكر: «هو مبارك عاوز إيه.. عاوز الشعب يبوس رجليه.. لأ يا مبارك مش حنبوس.. بكرة عليك بالجزمة ندوس».. إلخ. ومنها ما استخدم، رابعا، تيمات شعبية أحبها المصريون، وحفظوا إيقاعاتها، مثل الليلة الكبيرة «الخالدة» للعبقرى سيد مكاوى، حيث بات المواطنون يقولون: «مع السلامة.. مع السلامة.. يا أبوذمة واسعة».. وبعد ذلك يجتهد كمال مغيث فى توثيق وتدوين هتافات يناير.. كما يُعنى بتصنيفها.