(1) منذ نهاية العام الماضى وأنا أستشعر محاولات لتأجيج التوترات الدينية بين المصريين. من هذه المحاولات نرصد ما يلى: إثارة النقاش حول شرعية المعايدة على غير المسلمين من عدمها. وتجدد وقائع تتعلق بما يطلق عليه «التهجير القسرى» لبعض العائلات من قرى صعيد مصر. وأخيرا التراجع عن تعيين سيدة مديرة لإحدى المدارس، ليس لانعدام كفاءتها أو قدراتها، وإنما بسبب انتمائها الدينى… إلخ. وهى كلها محاولات تعود بنا إلى زمن «النزاع الدينى» الذى بدأ فى 1970 وامتد لأربعة عقود، كما توحى وكأننا بصدد مرحلة جديدة من مراحل هذا النزاع الذى تكون من أربع مراحل.. فبداية من واقعة أخميم نهاية 1970 إلى مجزرة الإسكندرية مطلع 2011،
شهدنا أربع مراحل متعاقبة متداخلة من النزاع الدينى، وذلك كما يلى: أولا: المرحلة العُنفية، وثانيا: مرحلة الاحتقان، ثالثا: مرحلة السجال الدينى، ورابعا: مرحلة التناحر القاعدى. (وهى مراحل عشناها ودرسناها مبكرا، وظللنا ندرسها لعقود من على أرضية المواطنة والشراكة الوطنية. راجع دراستنا المبكرة المعنونة: هموم الشباب القبطى، مجلة القاهرة 1992، ودراستنا اللاحقة المعنونة: الأقباط من انتزاع المواطنة إلى اصطناع الأقلية واختراع الملة، فى ندوة لا عروبة من دون المسيحيين، مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية، يناير 2011. والتى تعد خلاصة لكتاب تحت الطبع عن العلاقات المسيحية- الإسلامية عبر العصور).
(2) وقد كنا نظن أن هذا الزمن قد ولى. لقد انخرط المصريون معا فى «حراك» و«تمرد» تاريخيين لمواجهة كل من الاستبداد السياسى والدينى، الذى لم يفرق فى الواقع العملى بين مواطن وآخر. كما خرج- كما كتبنا مرة فى هذا المكان- «المصريون من كمونهم فى الجماعات الأولية. الكمون الذى لجأوا إليه فى مواجهة الانسداد السياسى والمدنى وتخلى الدولة عن توفير العلاج والتعليم… إلخ، وعن أحداث توتر متكررة على مدى عقود.. خروج إلى مصر جديدة جامعة لكل المصريين»..
فلقد كانوا على يقين بأن مصر الجديدة تستحق النضال والمشاركة فى تحقيق دولة المواطنة الفعلية لا الافتراضية.. وأنه لا تنازل عن ذلك كما لا يمكن القبول بما هو أدنى.
لذا كان التوافق العام فى كل الوثائق الوطنية التى اجتهد المصريون فى وضعها- بالرغم من بعض الملاحظات على بعض النصوص التى وردت هنا أو هناك- على أنه لا بديل عن دولة المواطنة المؤسسة على المساواة والعدالة للجميع دون تمييز.
(3) وعليه، هل يمكن القبول بتجدد محاولات إثارة التوترات الدينية مرة أخرى؟ أليست المهام الوطنية المصيرية التى تمثل تحديات جدية للمصريين تحتاج منا أن نتوحد لمواجهتها من أجل دولة عصرية ديمقراطية دستورية، كما تقول وثيقة الأزهر التى تشرفت بالمشاركة فى صياغتها؟.. وهل يمكن التعايش مع ضعف الجهة البيروقراطية فى تمكين المواطنين من حقوقهم وعدم مواجهة المجموعات التى تصر على التمييز والإقصاء والنفى. وهل من الملائم أن يشيع خطاب دينى مستورد لا يعبر عن إسلام الخبرة المصرية وذروتها فقيه مصر الكبير الليث بن سعد: فقيه التعددية والعدالة. خطاب لا يستوعب مسيرة النضال القاعدى الذى انخرط فيه المصريون فى مواجهة الحاكم الوافد والمستعمر. والذى تواصل فى «حراك 25 يناير وتمرد 30 يونيو». كذلك القبول بخطاب يحاول أن يقدم نفسه باعتباره معتدلاً، ولكنه فى نفس الوقت يقف فى نفس الخندق مع الخطاب المستورد. ونشير هنا إلى ما قرأته من أحدهم بأن المعايدة على غير المسلمين هى من «أعمال الخير والإحسان».. وإلى متى نتأخر فى تأمين المعالجة الجذرية والشاملة والاستباقية؟ حيث التدخل يكون فى الأغلب بغرض «إطفاء الحرائق»، وإذا ما تم يكون باستدعاء ما هو عرفى أو العودة إلى آليات ما قبل الدولة الحديثة.
(4) ألم يحن الوقت لتبنى «تدخلات» «Interventions» ذات طبيعة علمية؟.. وفى هذا المقام أذكر ما طرحناه (كاتب هذه السطور والمناضل العتيد جورج إسحاق، والعالم التنموى نبيل كامل مرقس، على الدكتور عصام شرف فى 24 مارس 2011، بعد أطفيح، لتكوين آلية وطنية لمواجهة التوترات الدينية بصورة علمية حديثة. وهو ما قمنا بصياغته تحت اسم «آلية عبور». وهى الآلية التى تتكون من ثلاثة مكونات أساسية: أولا: دراسة جغرافية التوترات الدينية وأسبابها، ثانيا: تصميم مجموعة من التدخلات التنموية المجتمعية لاستيعاب مسببات ودوافع التوترات الدينية أو لمعالجة تداعياتها، ثالثا: تكوين آلية للإنذار المبكر. وقد كانت هذه المبادرة هى الأساس «للجنة العدالة والمساواة». التى تشكلت بعد مخاض عسير مرتين ولم تنجز شيئا، وواراها الثرى فى ظروف غامضة.. وأتصور أنها جديرة بالتفعيل.
(5) أزعم أن من ضمن التحولات الكبرى التى جرت فى مصر أن عموم المصريين باتوا يتحركون فى المجال العام وفق مصالحهم وحقوقهم كمواطنين فى دولة لا كجماعات دينية.. خاصة أن التضخم والغلاء والإشكاليات المجتمعية لا تفرق بين مواطن وآخر.. إلا أن هناك من يريد لنا أن نغرق فى رمال التوترات الدينية الناعمة، ما يضعف «أمل» المصريين فى مصر جديدة لكل المصريين، ويجدد «ألم» عقود ممتدة من التوتر الدينى.. أتمنى أن نأخذ الأمر بجدية، فهناك آلاف الأسطر تم تسطيرها لمواجهة التوتر الدينى، ما علينا إلا أن نفعّل ما جاء فيها من أفكار نيرة.. ونواصل.