(1)
فى يومى الأول بالمحليات، جمعت قيادات المحافظة كى أعرض لهم تصوراتى التى اجتهدت فى إعدادها على مدى أسبوع حول منهج العمل المستقبلى. كذلك رغبتى الصادقة فى أن أسمع منهم، فى ضوء خبرتهم، ملاحظاتهم عن المدى الذى يمكن أن نصله فى ضوء ما هو متاح من موارد: مادية وبشرية، من جهة. وظروف صعبة، من جهة أخرى. مستفيدا من كل ما اختبرته فى عملى التنموى فى الفترة من 1986 إلى 2007، سواء كميسر للعمل التنموى على المستوى القاعدى، أو مقيما للمؤسسات والمشروعات التنموية.. وبعد ما يقرب من الساعة عرضت فيها تصوراتى من خلال عرض بالشرائح المعينة. وما إن انتهيت طلبت من الحضور رأيهم من واقع خبراتهم الميدانية. فجاءنى ردهم، الذى كان أقرب إلى «كورال موسيقى» عالى التدريب، فى صوت واحد وبهارمونية بديعة: «اللى تشوفه معاليك»!.. حاولت مرة أخرى،
وقلت: «حابب أسمع رأيكم».. فأسمعونى نفس الإجابة: «اللى تشوفه معاليك».. فسُقط فى يدى.. ولكنى لم أيأس، حيث كررت طلبى مرة أخرى مقدما إياه بعبارة: «لا بجد، هو فيه مشكلة تقولوا رأيكم؟!»…عندئذ سمعت بعض الاختلال فى التوافق الصوتى لدى الكورال المدرب. حيث بقيت الأغلبية على ردها الذى جاء واضحا وبجماعية حاسمة: «اللى تشوفه معاليك». بينما انتبهت أن هناك أقلية شذت بعض الشىء عن الباقين بقولها الأقل حدة فى نغمته الحاسمة: «اللى تشوفه سيادتك».. واعتبرت «خلخلتى» لانضباط الكورال نجاحا.. ولكن الإجابة المتكررة كانت تحمل الكثير من الرسائل.
«2»
«اللى تشوفه معاليك»، عبارة يجب تأملها كثيرا. فهى تعنى من ضمن ما تعنى، أولا: أن المسؤولية الأولى والأخيرة هى مهمة رأس المكان. وثانيا: أن الجميع يعملون وفق أفكار وتوجيهات وخطط «الرأس». ثالثا: ما يحكم العلاقة بين المستويات الإدارية هو «الهرمية الإدارية»، فلا مجال لمن هو دون الرأس أن يفكر أو يخطط أو يضيف على توجيهات المسؤول الكبير.. وعليه تتمحور الحركة حوله. ويكون الملاذ لكل من يطلب معونة والمرجع فى كل شىء. ولديه تتجمع كل التوقيعات حتى لو كانت من عينة: نقل موظف صغير من مكان إلى مكان، أو تجديد إجازة وضع، أو تجديد إعارة، أو…إلخ. وعند وقوع أى مشكلةـ مهما كانت بسيطةـ يتطلع الموظف إلى «الكبير» لحل المشكلة متجاوزا كل المستويات الإدارية. وهنا تجد الجهاز الإدارى الذى يبدو أنه يتسم بالصرامة الشديدة يتحول إلى حالة ما قبل حداثية ولا مؤسسية، مجسدا النموذج السائد فى الريف المنظم للعلاقة بين الريفيين والسلطة. حيث العمدة هو المرجع الأول والأخير فى إدارة شؤون الفلاحين. فالكل يلجأ إلى «أبا العمدة» لحل مشاكله. وهكذا فى الجهاز الإدارى يصر الكثيرون على اللجوء إلى «أبا العمدة» لحل مشاكلهم، بالرغم من أن هناك مستويات إدارية من واجبها أن تحل المشكلات، قبل أن يتم تصعيدها إلى قمة الجهاز الإدارى.. إنه نموذج «أبا العمدة» الإدارى.
«3»
إذن، نحن أمام حالة بيروقراطية تسعى إلى الحفاظ على أسرار المغارة الإدارية أو الإدارة المغارية، خاصة إذا لم نكن نعرف بعد ما إذا كان الوافد الجديد الذى تسلم المسؤولية سوف يستمر أم لا. أو أنه سوف يستسلم لقواعد المغارة أم سيحاول أن ينقب فى دهاليزها. ومن ثم يبقى الحال على ما هو عليه إلى أن يظهر ما يستوجب تغيير الموقف.. وبهذا يكون المسؤول أمام موقفين هما: الأول أن يقبل بالأمر الواقع فُيستغرق فى حل المشاكل باعتباره «أبا العمدة». وأن يستمر دولاب العمل يعمل وفق قواعد المغارة وببركة صاحب المعالى، والتى تعنى قبوله بعبارة الكورال «اللى تشوفه معاليك»، أو التواطؤ، ما يعنى أن تستمر الإدارة فى المغارة، دون تصويب أو تطوير أو تقديم الخدمة المدنية، بما تعنيه علميا. كذلك الصالح العام. الثانى: أن يحاول خلخلة الواقع قليلا، حيث يتحرر من محاولة إغراقه المتعمد فى أمور إدارية، يمكن أن تحل فى مستويات إدارية أدنى. ومن ثم التحرر من نموذج الإدارة على طريقة «أبا العمدة» حيث التمركز التام للسلطة. وذلك بتفويض السلطة أو بإعادة الاعتبار للمؤسسية بصورة أو أخرى. وابتكار آليات متنوعة تزيد من الشراكة فى اتخاذ القرار كما تقلل من مركزته قليلا. خاصة أن الفهم العلمى الدقيق للمحليات يعنى اللامركزية أو صناعة القرار من أسفل، ومن خلال شراكة شعبية. ومن ثم لا يمكن الاستمرار فى عمل المحليات بمفهوم يتناقض مع فلسفتها.. ويقينا يتناقض مع عبارة «اللى تشوفه معاليك».
«4»
وتحتاج عملية «الخلخلة» إلى ابتكارات تتجاوز الحلول النمطية. كما تدرك أن القوانين وحدها غير قادرة على تطوير الجهاز الإدارى ميكانيكيًّا، لأن هناك حاجة إلى التعاطى المباشر مع واقع البيروقراطية المصرية، كما حاولنا أن نقترب إليها فى دراستنا عن الشفرة السرية للبيروقراطية المصرية. ومن خلال دراساتنا المكملة لها حول الإدارة فى المغارة. فمن خلال الخبرة فى المحليات والجهاز الحكومى، أظن أننا فى حاجة إلى كوادر إدارية مدربة على ما أُطلق عليه الإدارة الحوارية التنموية التى تعرف مفاتيح الشفرة البيروقراطية، والقادرة على التنقيب فى المغارة والخروج بالجهاز الإدارى من عتمة المغارة إلى نور الشمس.. ونواصل.