(1)
«الإدارة فى المغارة: يوميات التنقيب والتجريب»؛ هو الجزء الثانى من كتاب نقوم بإعداده عن «قصة الميرى المصرى»، الذى «فُتّه» (من فاتنى)، فلم أعمل به منذ تخرجى. ولكنه «لحق بى» فى ظروف معقدة. كان الجزء الأول من قصة الميرى عنوانه: «الشفرة السرية للبيروقراطية المصرية». وقد تشرفت بنشر 11 حلقة من هذا الجزء فى «المصرى اليوم» العام الماضى، لاقت ترحيبا كبيرا واطلاعا واسعا. فى الجزء الأول، حاولت أن أقوم بعمل تأصيل تاريخى علمى لقصة البيروقراطية المصرية منذ الفراعنة إلى يومنا هذا. آخذا فى الاعتبار أنه لا توجد دراسة مصرية
حول هذا الموضوع ـ فى حدود علمى ـ تناولت المسار التاريخى للبيروقراطية المصرية. حيث ركزت أغلب الدراسات والرسائل على عصور بعينها مثل: الحكومة فى العصر البطلمى، عصر المماليك، أو الإدارة فى عهد الاحتلال البريطانى… إلخ. ولكننا أخذنا نتعقب تطور الجهاز الإدارى فى مصر من عصر إلى عصر. ما مكننا أن نطرح تصورا حول أثر أنظمة الحكم الوافدة، ومن ثم الأنظمة الاقتصادية التى تم تطبيقها على طبيعة هذا الجهاز.
(2)
أما «الإدارة فى المغارة: يوميات التنقيب والتجريب»؛ فلقد حرصنا من خلاله أن نتأمل وندرس ونختبر الجهاز الإدارى المصرى من خلال مجموعة من الإشكاليات والقضايا والأفكار. سوف نعرض لبعض منها، كل فى مقال. يعتبر «قصة الميرى المصرى» من أهم التجارب التى خضتها، أو كما أحب أن أجيب عندما يسألنى عنها أحد: «إنها تجربة عمرى». تجربة لم أسع إليها. ولكن القدر رتبها، والضرورة دفعتنى للاستجابة للدعوة، فى سياق ظرف تاريخى معقد. كان حصادها عاما كاملا فى المحليات وسنة ونصفا فى الحكومة. وقد حاولت فى أرض الواقع أن أمارس نوعا من الإدارة ينتمى إلى ما أحب أن اطلق عليه: «الإدارة التفاعلية الحوارية»، وليست الهرمية الجافة الآمرة القمية. وذلك بتأثير العمل التنموى الذى امتهنته لزمن طويل بالتوازى مع العمل العام. وأن أترجم هذه الخبرة إلى عمل علمى، ربما بتأثير ما تخصصت فيه لاحقا، وهو تقييم المؤسسات والمشروعات التنموية. وظنى أن تطوير الجهاز الإدارى المصرى لن يحدث إذا ما استمر التعاطى معه بشكل وظيفى إجرائى دون النظر إلى تأثير التحولات الاقتصادية/ الاجتماعية عليه، وعلى فهم ظروف نشأته التاريخية الفرعونية، ثم تحديثه الفوقى الذى تم على يد محمد على. وإرغامه على التخديم على التوجه الاشتراكى وهو غير مهيأ لذلك. وأخيرا تخديمه على التوجه النيوليبرالى مع قانون الانفتاح 1974، ما خلق تعقيدات كبرى نتحدث عنها فى حينها.. وأن تطويره فى الواقع ـ وبالضرورةـ يرتبط موضوعيا بالنموذج التنموى المنوط به أن يحقق التقدم.
(3)
لماذا المغارة؟.. واقع الحال أن هذا هو الانطباع الأول الذى تملكنى عندما عبرت مدخل البناية الضخمة فى يومى الأول بالمحليات. بناية حديثة تقترب من الـ15 دورا فى قلب القاهرة. ولكن ما إن تدلف إلى داخلها حتى تجد نفسك وقد عدت بالزمن إلى الوراء كثيرا. فالمبنى فى حالة يرثى لها من الداخل: مظلم، ومعتم، وتهويته سيئة، والأفراد يزيدون على الحد. ونصف المصاعد لا تعمل، هذا بالإضافة إلى انكشاف البياض عن حديد التسليح حيث بات يطل بأطرافه من كل جهة. كما لاحظت أنه لا توجد أجهزة كمبيوتر إلا فيما ندر والأهم أنها قديمة.. يلاقيك المواطنون يشتكون من تعنت الموظفين وتأخر مصالحهم. ولاحظت أن الشاكين أغلبهم من الفئات الدنيا. وكان التنبيه الأساسى لى هو «ألا أصدقهم». فهم يبالغون فى ما يقولون بل يكذبون. وعلى الجانب الآخر تجد أن هناك من يعرف كيف ينهى مصالحه مع الموظفين بطريقة أو أخرى. وهناك إدارات تحمل تسميات حديثة مثل: العلاقات العامة، و«الآى تى» وهى بعيدة تماما عن ذلك،… إلخ. إنه مشهد يوحى بأنك فى مغارة معزولة عن العالم بالرغم من أن الإدارة التى بداخلها هى المعنية بأن تنفذ الاشتراطات والمعايير الصحيحة التى من شأنها أن تؤسس حياة مدنية طبقا للقوانين التى تعدل بين الجميع وفى نفس الوقت تحافظ على الجمال العام.. وفجأة تذكرت فكرة لماكس فيبر، ما هى؟..
(4)
طرح ماكس فيبر فكرة تقول: «إن المقومات الأساسية للدولة الحديثة تقوم على نظام إدارى (بالإضافة إلى قانونى) يكون قادرا على تنظيم الحكم والضبط والسيطرة انطلاقا من معاملة متساوية لكل المواطنين فى شتى المجالات: التعليم، تسجيل المواليد، وتوثيق الوفيات، وتنظيم البناء، وتوفير التصاريح المتنوعة، والضرائب، وتأمين الخدمات، وتيسير الخدمات… إلخ. ومن ثم يصبح الجهاز الإدارى مثل «القفص الحديد»، حيث عناصره الوظيفية تقوم بأعمالها بمن داخله وإن بدا «كالسجن» وفق «دولاب عمل» غاية فى الانضباط. بهدف تحقيق العدالة بين المواطنين (راجع الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية).. وكان السؤال…
(5)
هل يا ترى لم يزل تصور فيبر حول بيروقراطية «القفص الحديد» قائما؟…هل الإدارة التى تكمن فى «المغارة» بمعزل عن الواقع وتفاضل بين من تخدمه ولا تخدمه، يمكن أن تستمر قفصا حديديا كما عرفته المجتمعات التى قطعت شوطا فى التقدم؟ وهل تنجح القوانين فى إخراج الإدارة من مغارتها؟ وكيف يمكن أن نتجاوز مرحلة القفص الحديد التى أظن العصر قد تجاوزها ـ لأسباب كثيرة ـ شريطة انضباط وعدالة الجهاز الإدارى؟.. ونواصل…