فى 24 ديسمبر الماضى، ليلة عيد الميلاد (الغربى)، رحل عن عالمنا المطران اللبنانى غريغوار حداد (1924- 2015). والمطران حداد هو أحد رجال الدين الذين وهبوا حياتهم من أجل الفقراء والمهمشين فكرا وممارسة. أمضى حياته يناهض كل أشكال الظلم: الاجتماعى، والاقتصادى، والسياسى. ودأب على تعرية ما يمكن تسميته ببنى الاستبداد الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، المنتجة للظلم. ولم يستثن المؤسسة الدينية من معركته. فلقد كان دائم النقد لرجال الدين الذين كانوا ينزعون من خلال المؤسسة الدينية إلى التوشح بالعصمة. ومن ثم السيطرة على الإنسان.
(2)
فى عام 1957، أسس «الحركة الاجتماعية». وهى الحركة التى واكبت حركات التحرر العالمية عقب الحرب العالمية الثانية. كما واكبت تحركات كنسية كاثوليكية عالمية تؤذن بضرورة أن تهتم الكنيسة بالمشاكل المجتمعية للفقراء والمهمشين. وهو ما طالب به مجمع الأساقفة الكاثوليك فى قارة أمريكا اللاتينية والذى عقد بـ«ريودى جانيرو» عام 1955. أى أنه استجاب مبكرا لرياح التغيير التى انحازت لضحايا الظلم بألوانه وضرورة أن ينحاز الدين لهؤلاء الضحاياـ بغض النظر عن انتمائهم- ليس من أجل الهيمنة عليهم، وكأنه يستبدل استبدادا باستبداد. وإنما كى يحررهم ويمكنهم من العيش بكرامة فى سياق عادل وحر كمواطنين.. لذا جاءت الحركة الاجتماعية للجميع، بغض النظر عن العقيدة، لأنها لا طائفية ولا حزبية، هدفها الإسهام فى التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد.. المفارقة أن الحركة طالتها اتهامات من كل الأطراف. ذلك لأنه فى مجتمع طائفى مثل لبنان يعتمد الولاء فيه على الروابط الطائفية. فإن هذه النوعية من التشكيلات ذات الطابع العابر للطوائف، والتى تقدم خدماتها للجميع، تكون مثار نقد وعدم ارتياح، وهجوم وتجريح.. وخاصة إذا قامت الحركة على أموال الأعضاء وجهودهم.. فهكذا حركات تمكن الناس من أن يتحرروا من هيمنة طوائفهم وتناقضاتها وأموالها التى تحتكرها عائلات بعينها تدرك أن سطوتها ومكانتها فى بقاء بنية الطائفة على ما هى عليه دون تعديل أو تغيير.. حيث يبقى أمراء الطوائف كما هم ويبقى باقى الجسم الاجتماعى لهذه الطوائف كما هو، حيث تؤدى عناصره نفس الأدوار.
(3)
وفى يناير عام 1974، أسس غريغوار حداد دورية فكرية مهمة هى آفاق، التى أفصحت عن مضمون رؤية حداد تجاه الإنسان والواقع ومؤسسات الهيمنة المختلفة فى المجتمع من واقع الممارسة العملية المجتمعية. حيث جاء فى افتتاحية عددها الأول ما يلى: آفاق تود أن تكون أداة فاعلة، تربطنا بالعالم الذى نعيش فيه، لنعى أكثر فأكثر مكوناته، ونتعرف إلى مشاكله، وآماله وتطلعاته، ونتفاعل مع الإنسان، كل إنسان، ومع المجتمع الذى نحن فيه، علّنا نصبح من صانعى الحضارات. آفاقنا تأبى أن تكون ما يقف عنده النظر ولا يتعداه، بل إشارة إلى متابعة السير نحو ما هو أبعد وأعمق أكثر فأكثر. لذلك جاءت هنا كلمة آفاق دعوة مستمرة إلى اكتشاف عوامل الديناميكية والثورة فى المجتمعات، وإلى السير نحو مستقبل جديد، وليس اكتفاء كسولا بما وقف عنده النظر وحطت عنده المعرفة السطحية فى جمود قاتل.. ثم انتقلت آفاق فى نصها الافتتاحى البديع والواعى تقول: إن خط التزامنا وموضوع انتقائنا هو الإنسان.. الإنسان المستقل الحى والحر والمتميز.. هذه هى الرؤية العامة التى حكمت آفاق.. فجاءت موضوعاتها نموذجا فى الاجتهاد الدينى العميق والبديع. ومنها: بين الله والإنسان، ظاهرة الرفض فى المجتمع المعاصر، الثقافة العربية بين الحداثة والتراث، الإيمان والالتزام المسيحى، حول الغلاء والاحتكار، الأيديولوجيا والإيمان بالإنسان. وقد توقفت «آفاق» بعد معركة كبيرة ضد غريغوار حداد، ذلك لأنه اُعتبرت حركته وكتاباته من قبل عديد من الأطراف خروجا عن كل نص: الدينى والاجتماعى والسياسى.. فلقد كان- وهو المطران- قدوة للفقراء فكان يستقل التاكسى والميكروباص. لم يسع يوما إلى كنز المال.. وكانت كتبه- تحرير المسيح والإنسان، والمسيحية والمرأة، والعلمانية الشاملة… إلخ، والتى اعتمد فيها ما وصفه بالمنهجية الجذرية- محل نقد شديد.. وكانت هذه المنهجية الجذرية تقوم على ركنين أساسيين هما: دينامية البحث الفكرى، ودينامية الاختيار الحياتى.. فلديه ليس هناك قضية محرمة على البحث والتحليل لأن الإنسان بحاجة لأن يعرف، ولأن المسيح لم يأتِ للتعتيم على القضايا التى تهم الإنسان وإبقائه محاطا بأسرار وغيبيات.. كما أنه ليس من حق أحد أن يقيد حرية الإنسان التى جبل عليها. أعيد إصدار «آفاق» فى 1997. وأذكر أننى عندما عينت أمينا عاما مشاركا لمجلس كنائس الشرق الأوسط لدورتين (1995- 2001)، كنت حريصا على جمع أعداد آفاق كاملة. كما تشاء الظروف أن يعيد الأخ الدكتور جيروم شاهين (الإعلامى واللاهوتى اللبنانى، أحد تلاميذ حداد ورئيس تحرير آفاق) نشر دراستى عن تجربة لاهوت التحرير التى سبق نشرها فى مجلة القاهرة فى يناير 1994.
(4)
نُحّىَ حداد من موقعه، ولكنه ظل يعمل ويمد خدماته للجميع. ولا أنسى كيف اعتُدى عليه وهو شيخ مسن فى الـ88 (عام 2002) فى الشارع، فى قلب بيروت خوفا من حديثه الذى كان مزمعا أن يجريه فى التيليلوميير.. فلقد ظل يهدد أصحاب المصالح حتى سنواته الأخيرة…تحية لرجل دين مختلف، أعطى ظهره للسلطة وللثروة، وجعل الإنسان همه الأول.. ونواصل.