(1)
لا توجد ظاهرة كبيرة أو صغيرة، ترتبط بالحياة الإنسانية وتفاعلاتها المتنوعة، لا تخضع للتحليل العلمى المتعدد الأبعاد. من هذه الظواهر، والتى حظيت بالعناية والدراسة رفيعة المستوى، ظاهرة «التعاطى المتنامى والعابر للحدود لشبكة الإنترنت بتجلياتها المختلفة»، بشكل عام.. وهو النشاط الذى بات يوصف بأنه أضخم مشروع «لا مركزى» عرفته الإنسانية عبر تاريخها. وفى القلب من هذه الظاهرة، ظاهرة أخرى ذات تأثير مباشر فى حياة الناس. وهى ظاهرة الاستخدام الهائل الممتد عبر الكوكب الإنسانى فى المجالات: السياسية والمدنية والاجتماعية والثقافية للإنترنت الذى بموجبه أصبح «قوة جديدة غير مسبوقة فى: التأثير، والضغط، والنضال، والمقاومة، ضد الظلم والسلطة ـ أى سلطة ـ وكل قديم يعوق التطور،…،إلخ…قوة حرة باحثة عن مجتمع حر وعادل ومتجدد».
(2)
فى هذا السياق صدر فى العام الماضى كتاب قليل الصفحات (160)، كبير القيمة، يفتح آفاقا لا حدود لها فى تفسير الظواهر الإنسانية/الرقمية.عنوان الكتاب: «العصيان السيبرى:Cyber Disobedience»؛ (السيبرنتيكا هى كل ما يتعلق بالتحكم والضبط عبر الآليات التقنية الرقمية الجديدة). ومن الأمور الهامة أن الكتاب قد شارك فى تأليفه باحث فى جامعة فانكوفر يقوم بتدريس العدالة الاجتماعية والدفاع عن حقوق المجتمع والتفكير النقدى. ومعه شاب تخرج فى قسم العلوم الاجتماعية والإنثروبولوجيا بجامعة كارلتون، ومعهد الدراسات المقارنة فى الأدب والفن والثقافة، حيث تخصص فى مجال جديد مبتكر هو: «الإنسانيات الرقمية». ما يعكس كيف «اُستنفرت» المؤسسة العلمية من جهة، كذلك العقل الإنسانى، من جهة أخرى، فى محاولة لفهم دوافع التحرك الرقمى، وقضاياه، وآثاره على الواقع الإنسانى الكونى.. ويلاحظ كيف أن الظواهر الجديدة تؤدى فى المجتمعات الحية إلى منهجيات ومعالجات جديدة تتجاوز المنهجيات والمعالجات العلمية المتعارف عليها. كما تتيح الفرصة للعقل الإنسانى ـ طالما امتلك عقلا نقديا واكتسب القدرات الذهنية المطلوبة بغض النظر عن وضعيته فى التراتبية المؤسسية ـ أن يبدع فى تفسير وتحليل الظواهر الجديدة. الأهم هو إمكانية أن يضيف هذا العقل إبداعات فكرية غير مسبوقة فى العلوم التى نتصور أنها لا تتطور مثل علم الاجتماع فى بلادنا الذى لم يرق بعد للتطرق إلى تفسير الظواهر الجديدة مثل التى نحن بصددها.
(3)
يقدم لنا الكتاب تحليلا تفصيليا من منظور علم الاجتماع السياسى وسوسيولوجيا الطبقات، والحركات الاجتماعية، لما يمكن أن نصفه: بـ«الحركات الرقمية». وهى تلك الحركات التى تنشغل «بالمقاومة الرقمية من أسفل» «Digital Resistance from Below».. وتحديدا ضد الرأسمالية المتوحشة التى أدت إلى كثير من التفاوتات والاختلالات السافرة. وقد بدأ هذا التحرك، أول ما تحرك، إبان التعبئة العابرة للحدود لمناهضة العولمة منذ منتصف التسعينيات.. لم تتوقع الأنظمة السياسية من جانب، ولا الشركات التى انطلقت تدير الشبكات الرقمية عبر العالم من جانب آخر، أن السيطرة التى تم فرضها على استخدام الإنترنت فى البداية لاعتبارات كثيرة، سوف تكون موضع تهديد من عقول خارج سيطرتهما. عقول ناضلت من أجل ألا تتم المتاجرة بالإنترنت واعتباره سلعة فيكون لمن يقدر، وملكية خاصة للبعض. ومن ثم يدخل دورة «التراكم الأولى» كم جرى فى «الزمانات»، من نواتج الأرض والصناعة. فلقد رفضت العقول الجديدة الرقمية التعليم والممارسة، التطويق والتسييج الذى فرض على التعامل الجماهيرى للإنترنت. أو بلغة أخرى «احتكار» تشغيله و«الاستئثار» بعوائده.
(4)
لقد كانت عملية تحرير الإنترنت من أهم العمليات النضالية التى عرفتها البشرية. بدأ الأمر عبر «القرصنة». ولكن سرعان ما استجابت الشركات والسلطات إلى أنه لا مناص من فتح الباب أما «الشراكة العمومية» للجميع للاستفادة من أهم منجزات العقل الإنسانى. وهكذا تم تأسيس «الزمن الرقمى» «Digital Age»، حيث أصبح ما يقرب من نصف سكان العالم يتعاطون مع العالم الرقمى. وعليه يمكن أن نقول إنه بات هناك ما يعرف بـ«مواطن الشبكة» Netizenship. ونشير إلى أننا كنا فى بعض كتاباتنا عن المواطنة مبكرا قد أشرنا إلى أنه مع مرور الوقت سوف يكون لدينا المواطن الرقمى Digital Citizen؛ كما أشرنا إلى تعبير «مواطن الشبكة» مبكرا وكانت تكتب بالإنجليزية Netizen.
(5)
عاش المواطن الرقمى/المواطن الشبكى، مواطنيته الرقمية عبر الشبكة باحثا عن المعرفة، واللهو، والتسلية، والتواصل الاجتماعى. كذلك مناضلا من أجل القضايا المجتمعية. ومقاوما السلطوية، ومتحديا احتكار رأس المال، ودافعا للتغيير الاجتماعى، وإعادة النظر فى كل شىء: الديمقراطية، والمواطنة، والحرية، والعدالة. ومراجعة النظم التقليدية التى ترتب كثيرا من الشؤون. ذلك لأن التطبيقات الكمبيوترية المُبدعة أصبحت تحل محل هذه النظم النمطية،…،إلخ.
(6)
ولعل أهم ما طرحه الكتاب هو أنه يعتبر أن العالم الرقمى قد أسس «نظاما اجتماعيا جديدا».. وأنه «لا يعرف إلى أين سيأخذنا».. ويتوقع أن «مواطنى الشبكة» سوف يواصلون نضالهم الرقمى ذلك لأنه على عكس هؤلاء الذين يتندرون عليه، سواء من ممثلى السلطات المختلفة أو من المناضلين التقليديين، فإنه سوف يزداد تنظيما وتأثيرا. وقد يصل الأمر إلى أن ينتظم مواطنو الشبكة فى نقابات تزيد من مقاومتهم ونضالاتهم.لا يفوتنى أن أشير إلى عدد المصادر والمراجع التى تناقش الظاهرة فى إطار علوم جديدة متنوعة الأبعاد تعكس إلى أى حد يقف العقل البشرى ونقف نحن.. ونواصل.