(1)
فى إطار دعوتنا إلى وجود نص شامل حول كل ما يتعلق بمصر والعالم، أى «عننا»، نكتبه «بأيدينا»، حتى نعرف مواردنا الطبيعية التى لم تزل قيد الاكتشاف، والتى اكتشفت، ووضعها الحالى، وكيف يمكن الاستفادة القصوى منها. كذلك نجاحاتنا وإخفاقاتنا التنموية والمؤسسية، ولماذا نجحنا ولماذا أخفقنا؟ أيضا معرفة عقولنا المصرية فى كل مجال ومن جميع الأجيال فى داخل مصر وخارجها فى شتى المجالات… إلخ. وترجمة حصيلة كل ذلك إلى: «خرائط معرفية ونصوص شارحة تمكن من وضع التصورات المطلوبة والبدائل المتنوعة الملائمة للنهوض بوطننا، من ثم السيناريوهات المتنوعة فى إطار مشروع تنموى مركب، والسياسات والبرامج المطلوبة»…والتأكيد فى نفس الوقت،
على الأهمية القصوى، على العمل ـ بالتوازى ـ على وصف جديد للعالم الذى صرنا نبتعد عنه «معرفيا» بما لا يقل عن أربع موجات معرفية وهو موضوع سوف نشرحه لاحقا تفصيلا حول «الفجوة المعرفية» التى باعدت بيننا وبين الآخرين.
(2)
الخلاصة، لم يعد ممكنا القبول بغياب المعلومات بالمعنى الشامل ـ أى الكمية والكيفية وبالصور وبالخرائط ـ وبخاصة التى تتعلق بالموارد الطبيعية أو بالخدمات وأوضاعها والمطلوب لها سواء من: صيانة، أو تجديد، أو بناء، وذلك فى زمن المعلومات ومجتمع المعرفة.. كما لم يعد مقبولا أن تتسم «الزمانات» بهذه الفضيلة، مثلما أوضحنا فى مقالنا السابق عندما قامت الحملة الوافدة بعمل مسح شامل لمصر: موثق بالمعلومات التفصيلية وبالرسومات والجداول وبالصور، وبمسوح شاملة غطت كل بقعة من بقاع مصر تناولت كل المجالات فى إطار تصنيفى منهجى متميز.. ومثلت هذه المحاولة دفعة كى يقوم «على مبارك» (1824 ـ 1893)، ابن دكرنس بالدقهلية. على مبارك أول دفعته «بالمهندسخانة» عام 1844. وعلى الرغم من أنه كان غزير الإنتاج إلا أنه كان حريصا على أن يكتب مؤلفا موسوعيا شاملا عن مصر يسجل فيه: «التطور التاريخى والعمرانى والدينى والاجتماعى لمصر»…ويبرر ذلك بقوله: «إن معرفة ذلك حق علينا، إذ لا يليق بنا جهل بلادنا. والتهاون بمعرفة آثار أسلافنا، التى هى عبرة للمعتبر وذكرى للمذكر. فهم وإن مضوا لسبيلهم، قد تركوا لنا ما يحثنا على اقتفاء آثارهم، وأن نصنع لوقتنا ما صنعوه لوقتهم، وأن نَجدّ فى طريق الإفادة كما جدوا»…وعمل على إنجاز موسوعته الوطنية لوصف مصر وبالفعل أتمها فى 20 جزءا. والتى عرفت «بالخطط التوفيقية».
(3)
فى الجزء الأول، وصف المكان الذى أقيمت عليه مدينة القاهرة، ملحقا بالوصف خلفية تاريخية عن مسار القاهرة التاريخى منذ الفاطميين ومرورا بالأيوبيين والمماليك والعثمانيين حتى الخديو توفيق. وضمن الوصف ما يلى: التقسيم الإدارى، وعدد أقسام الشرطة، والمرافق العامة، ومدارس، ومرفق المياه، والمساجد والزوايا والربط، والخوانق (بيوت العبادة)، والتكايا، والأسبلة، والمقاهى، والحمامات العامة، والموالد. كما تم رصد الحرف وعدد العاملين بها…وفى الجزء الثانى، سجل على مبارك فى خططه، شوارع وحارات وعطف ودروبا وأسواق وقصور القاهرة وأهم خزائنها. كما سجل تراجم وسير عدد من الأشخاص العامة. واختتم هذا الجزء بـ125 بحثا تناول فيها شتى الموضوعات فى التاريخ والمجتمع والطبوغرافية. وفى الجزء الثالث، استكمل وصفه لباقى شوارع القاهرة. بالإضافة إلى 146 بحثا حول موضوعات من عينة: تحديد مواقع الأرض الحكر، وإنشاء دار الكتب المصرية،…،إلخ.أما الجزءان الرابع والخامس فخصصهما لمساجد القاهرة. كما اختص سيرة الحسين بالذكر. وأنهى فى الجزء السادس ما يتعلق بالقاهرة من مدارس،… وانتقل فى الجزء السابع إلى وصف مدينة الإسكندرية: تاريخها، وتطورها الاجتماعى والديموغرافى والسياسى. وذكر تطور تأسيس ميناء الإسكندرية وصناعة السفن، وتاريخ حفر الترع والأهوسة، وقصة المدرسة البحرية، وحصون الإسكندرية،…،إلخ.
(4)
وبداية من الجزء الثامن إلى الجزء السابع عشر، خصص مبارك خططه فى عرض محافظات ومدن مصر. ودعم وصفه بالعديد من الدراسات حول بعض الظواهر الاجتماعية التى تبرز فى مكان بعينه أو أكثر. مسجلا آثار مصر فى كثير من الأماكن. وفى الجزء التاسع عشر كتب عن نهر النيل ومنشآت الرى القائمة فى عموم القطر المصرى، وعدد العمال، ومقدار الأنقاض، التى تتخلف عن الحفر. مع رسم تفصيلى لمسار المياه بداية من مصبها وطولها وعرضها وعمقها وقت التحاريق أو زمن الفيضان. واختتمت الموسوعة بحديث تفصيلى عن العملة وتطورها فى مصر. مع دراسة تعرض لفترات الغلاء وأزمات التموين فى المواد الغذائية وكيف كان عنف المجاعات عاملا فى دفع الشعب إلى الثورة على الحكام…،إلخ.
(5)
وأجمع من تناول الخطط أنها «من العوامل التى نشرت الوعى التاريخى فى مصر» (الفرعونى والقبطى والإسلامى). ولم تنهج الخطط منهجا احتفاليا بقدر ما نهجت منهجا علميا نقديا للتاريخ يفتح الباب للنقاش المفيد للمستقبل. ويضاف إلى ذلك أن القاعدة المعرفية التى ضمتها الخطط أتاحت الانطلاق لوضع تصورات لمصر المستقبل ـ آنذاك ـ فى التوسع الزراعى، وإدخال الصناعات الكبيرة، وإقامة شبكات الطرق والسكك الحديدية، ومنائر هداية السفن، وأحواض للسفن،…،إلخ. ولم يقف دور على مبارك على وصف مصر فقط وإنما ساهم بعلمه فى تنفيذ الكثير من المشروعات وقت أن تولى مواقع فنية…ونواصل.