(1)
وصلتنى فى شهر سبتمبر الماضى دعوة للمشاركة فى سيمنار تنظمه كلية بيمبروك، إحدى كليات جامعة أكسفورد (عددها 40 كلية تقريبا)، تحت عنوان: «الدين والسياسة فى مصر». وذلك للحديث عن «مفهوم الدولة المدنية فى مصر»، (وسوف نتحدث تفصيلا عن هذه المشاركة فى مقالنا القادم). ولم أتردد لحظة فى قبول الدعوة، وذلك لسببين،
أولهما: علمى/معرفى، يعود لموضوع الندوة ومحاورها والمشتركين فيها والمكان الذى يستضيفها ألا وهو «أكسفورد». وثانيهما: شخصى محض، وهو أننى سوف تتاح لى فرصة السفر إلى إنجلترا أو المملكة المتحدة، وهو حلم يراودنى منذ الصغر. فلقد تعلمت فى مدرسة الإرسالية الإنجليزية، وحصلت على الثانوية العامة منها. وعلى مدى سنوات الدراسة: الابتدائية والإعدادية والثانوية، (من 1964 إلى 1977) درسنا، بالإضافة إلى العلوم الأساسية، عشرات النصوص الأدبية الإنجليزية: الأصلية والمبسطة. شكلت رؤيتى للعالم وللحياة، ولصورة المدينة والريف (ماكبث، وقصة مدينتين وتاجر البندقية وجين إير)… والتأكيد على متابعة الحلقات الأجنبية الإنجليزية من عينة: المنتقمون، الناس اللى فوق والناس اللى فوق، أفلام هيتشكوك، مغامرات إيفانهو،… إلخ. وكان للمنهج التربوى الذى تلقيناه، والذى يقوم على مبدأ: الـ«Discipline»، أو الانضباط والصرامة، أثره على حياة المرء. فلكل أمر من أمور الحياة موعده وطريقته وأسلوبه، ويجب الالتزام بالقواعد والأسس المنظمة لهذه الأمور، طريقة الكلام، وتناول الطعام، وكيفية الدراسة، ومنهجية التعاطى مع القضايا… إلخ. لكل ما سبق كانت الفرحة مزدوجة…
(2)
فعلى الرغم من أنى أسافر إلى أوروبا منذ وقت مبكر (1984)، حيث سافرت إلى فنلندا، وتوالت الأسفار عشرات المرات إلى دول مثل: هولندا، وألمانيا، وسويسرا، وبلجيكا، وفرنسا، والنرويج التى تلقيت من أكاديميتها للآداب وحرية التعبير جائزتها السنوية ودبلومتها فى عام 2004، ومؤخرا اختيارى عضو شرف الأكاديمية مدى الحياة، (وهى الجائزة التى تحمل اسم أول أديب نرويجى يحصل على نوبل للآداب فى عام 1903)، إلا أن إنجلترا كانت دائما الحلم المؤجل.. حتى جاء الوقت…
(3)
بروحية الفرحة المزدوجة توجهت إلى المملكة المتحدة. أحمل: «الحاضر والماضى»، «فالماضى كان حلما، وصار الحاضر متمما للماضى، والمستقبل بأحلامه مهما تأخر تحقيقه فإنه آتٍ ويصبح حاضرا فماضيا».. هذا ما كان يعتمل داخلى.. وأظنها أفكارا قد عبر عنها شعريا يوما الشاعر الإنجليزى ت. س. إليوت قائلا:
«الحاضر والماضى.. ربما كانا حاضرا فى المستقبل، وربما كان المستقبل طى الماضى،
لو كان الزمان كله حاضرا أبديا لما أمكن افتداء كل الزمان.
إن ما كان يمكن حدوثه وما قد حدث فعلا يشيران إلى غاية واحدة، هى حاضر أبدا.
إن وقع الأقدام يتردد صداه فى الذاكرة.. فى الممر الذى لم نسلكه نحو الباب الذى لم نفتحه قط.. «(أربع رباعيات- ترجمة ماهر شفيق فريد).
(4)
رتبت برنامجى بالتوجه أولا إلى أكسفورد للمشاركة فى أعمال السيمنار الخاص بمصر. ثم العودة إلى لندن بعد ذلك.. فى أكسفورد تكتشف أنك أمام مدينة علمية شاملة.. كيف؟…
(5)
تقع أكسفورد جنوب شرق إنجلترا، على بعد ساعة تقريبا بالسيارة. يعود تأسيسها إلى القرن الثامن الميلادى. يقطنها أكثر من 150000 نسمة. تقدم أكسفورد نموذجا للمدينة العلمية الشاملة، من حيث إنها تضم ما يزيد على 40 كلية متجاورة تدرس شتى العلوم.. ويشار إلى أن شعار المدينة: «الحقيقة قوة» (باللاتينية Forties estVeritas).
وما إن تدخل كل كلية حتى تجدها هى نفسها مدينة فى ذاتها من حيث: قاعات الدرس، والقاعات العامة، والمكتبة الداخلية، والمطعم، والصالون الخاص بالضيوف، ومبانى إقامة الطلبة والأساتذة الذين على قوة الكلية أو الضيوف. وأماكن الرياضة والترفيه، وتأمين كامل لتكنولوجيا المعلومات. وتختلط المبانى بين الحديث والقديم بانسجام دون تشوه. فعلى سبيل المثال يعود المبنى الذى أقمنا فيه إلى القرن السابع عشر، وتحديدا لعام 1620. وخارج الكلية تجد شبكة طرق غاية فى التنظيم والدقة يفد إليها عدد مذهل من الحافلات من كل جهة كل 5 دقائق. وبالرغم من أن الطرق فى قلب المدينة قديمة وضيقة إلا أنه نادرا ما تجد أى ارتباك مرورى. وفى المدينة يجد المرء كل أنواع الحوانيت والمقاهى والمكتبات العامة التى تعنى أن هناك حياة متكاملة موازية للمدن الجامعية. ونلفت النظر إلى أن النشاط العام للمدينة يصب فى مجالات وقطاعات البحوث وتقنيات المعلومات وصناعة السيارات وتطوير الاقتصادات النوعية المختلفة.. كما لعبت أكسفورد دورا تاريخيا فى شتى مراحل تاريخ إنجلترا. فعلى سبيل المثال استضافت خلال الحرب الأهلية البريطانية أعضاء البرلمان فى المدينة.. كما أنها كانت موقعا لتطوير كثير من التقنيات اللازمة فى أوقات الأزمات الكبرى.. بالإضافة إلى التواصل بين نتاجات البحث العلمى لأكسفورد والجهات التنفيذية المختلفة…
(6)
والمشاهد للحيوية التى يتحلى بها طلاب المدينة يدرك أن التعليم والمعرفة والعلم فى أكسفورد لها معنى مغاير تماما.. وهو ما يمكن أن تكتشفه بسهولة ويسر عندما تشارك فى أى محفل علمى/بحثى، حيث تجد نفسك فى تدريب ذهنى مركب.. وهو ما اختبرته فى سيمنار الدين والسياسة فى مصر، الذى نعرض له فى مقالنا القادم.. ونواصل…