(1)
مثل العقد الأول من الألفية الجديدة، منعطفا حاسما فى المسار السياسى المصرى، حيث شهدت هذه الحقبة ثلاثة أنواع من حركات الاحتجاج: الحركات السياسية والمدنية، والحركات الفئوية والنوعية، والحركات المناهضة للتمييز. وكان من نتاج هذه الحركات مجتمعة أن نجحت أن تكشف حقيقة الأوضاع المجتمعية فى مصر على كل الأصعدة والتى كان الانتعاش المالى المحدود ومعدل النمو الضئيل يغطى عليها، وبالطبع كان الإعلام «يغلوش» عليها… وعليه كان «الانكشاف» المجتمعى الشامل، أو بلغة أخرى، إدراك مدى تدهور أحوال البلاد والعباد، هو القاعدة التى أطلقت سنوات الحراك بدوراته الزمنية المتعاقبة: الربيع الأول بداية من أسابيع الأمل التى انتهت بإسقاط الحاكم،
وشهور الجدال الدستورى والسجال السياسى، والنزال الميدانى والتى بدأت بالاستفتاء الدستورى فى 19 مارس 2011 وانتهت بالانتخابات الرئاسية الأولى بجولتيها (وكل جولة تعبر عن حالة مغايرة تماما)، ثم الدخول إلى زمن الاختطاف أو حكم الجماعة منفردة فى ظل شرعية مغايرة لشرعية 25 يناير والانحراف عن شرعية الربيع الأول، وحلول الربيع الثانى الذى وصفناه بربيع الالتفاف الوطنى حيث تمرد الوطن بأطيافه على مشروع الجماعة دفاعا عن الدولة الوطنية المصرية فى مواجهة مشروع تقويضها يتجاوز الحدود الوطنية المصرية ويصب فى مصالح إقليمية وكونية معقدة نشهد التباساتها المعقدة اليوم.
(2)
ولكن، وآه من لكن، دوما، لم تمر أيام على نجاح تمرد الالتفاف الوطنى حتى رأينا «فرزا» سياسيا متعدد المستويات: طبقى، ودينى، وسياسى، وثقافى،…،إلخ. وعاد التناحر السياسى يعتمد منطق الصراع الثنائى الحدى الضيق. وبعد أن كان سقف مطالب القوى الوطنية مركبا وعاليا وكليا، انخفض سقف المطالبات إلى الفرعى والجزئى والبسيط. وبدلا من تعميق فهمنا لقيم العدالة الاجتماعية والحرية والكرامة الإنسانية تعاطينا مع المطالبات بسياسات إجرائية لا ترقى لجوهر هذه القيم. وتحت وطأة سوء الأحوال التى لا تتحمل مسؤوليتها 25 يناير بقدر ما كشفتها، حيث يرجع سوء الأحوال إلى سياسات النظام على مدى عقود، وأنا أشهد على ذلك كيف تراجعت المرافق وأدى كثير من السياسات إلى ما نحن فيه منذ مطلع الألفية الجديدة إن لم يكن قبل ذلك. أقول فرضت الظروف أن يتم التركيز على إنجاز حلول سريعة لا ترقى لمطالب التغيير فى جوهرها الحقيقى بقدر ما تجعل السفينة عائمة. ولا يستطيع أن يختلف أحد على أهمية بقاء السفينة عائمة وهو أمر محمود فى ذاته. الإشكالية فى أن الأمر يحتاج إلى تصور مركب يحمى القائم ويضع تصورا للمستقبل يقوم على النظرة الكلية الشاملة حول النموذج المطلوب لمصر أو بلغة أخرى: «أى مصر نريد؟»…وهو سؤال كبير يحتاج إلى إجابة مركبة يشارك فيها الجميع… وظنى أن كثيرا من المؤسسات تصورت أنه يمكن أن نعود إلى «الزمانات» ومن ثم لا ضرورة «للكلام الكبير والتنظير»، وكأن الحال هو الحال ولم يطرأ على مصر أى تغيير، بالرغم من أننا فشلنا فى مسيرة الحداثة التى بدأت مع محمد على ومن ثم تحرك الناس وطالبوا ـ ضمنا ـ بتأسيس جديد للحداثة… لذا رأينا العودة إلى الخطاب القديم: «إحنا عايزين حلول سريعة» أو «إلحاح الإنجاز السريع» فى غيبة الرؤية.
(3)
فى هذه الأثناء، ساد مفهوم إعادة الانضباط بعد سنوات «الانفلات». وهو تعبير تجده متداولا بشكل أظنه عمديا. ما يوحى بأن سنوات الحراك المجتمعى والتى ـ بالرغم من شىء ـ لم تحررنا بدرجة أو أخرى، و«حلحلت» عقودا من السكينة والسكون الذى لم تستفد منه إلا قلة قبلت بأن تلعب مع عنصر وحيد هو التيار الدينى لاستكمال المشهد الديمقراطى الزائف من جهة، وضبط الجماهير من جهة أخرى. وتبدلت مواقع البعض، وتغيرت مواقف البعض الآخر، وتعددت مصادر الدعم وبالأخير: انفرط عقد الالتفاف إلا فيما يختص بالموقف من الدولة الوطنية بمعناها الكلى…وأظنه السؤال الذى نجح المصريون فى الإجابة عنه بوضوح وبحسم وأنه لا تنازل عن «الدولة الوطنية الحديثة» (نفسر لاحقا ماذا تعنى لدينا).
(4)
ولكن ـ ومرة أخرى ولكن ـ تعثرنا فى مواجهة باقى الأسئلة… وتم اللجوء إلى معادلات ذات طابع تلفيقى تجمع بين التكنوقراط القدامى الذين انقطعوا عن جديد المعرفة منذ عقود. وبين تكنوقراط حقبة الليبرالية الجديدة والتى تعلمت فى ظل أنظمة تعليم تعنى بالتكنيكات والتقنيات وبالرطانة دون الاهتمام بجوهر الأمور والتربيط المعرفى الشبكى والمركب. وبين البيروقراطية التى لا خلاف على أنها بعيدة تماما عن العصر ولا يمكن بأوضاعها الحالية أن تنهض بالدولة، كما فعلت فى دولة محمد على، بالإضافة إلى الاستعانة بالجماعات الأولية… وهو أمر أظنه ـ بالرغم من النوايا الوطنية الطيبةـ يمكن أن يكون عنصر إضعاف ذاتيا يؤدى إلى تصدع ذاتى…ومن ثم إلى امتداد سنوات الحراك…ونواصل.