(1)
فى نفس اللحظة التى انشغل فيها البعض منا بالعفاريت والجن، واستنفر البعض الآخر لمواجهة الإلحاد، بعد عقود من التدين المفرط… نجد بشرا يكرسون حياتهم ومواردهم فى تطوير حياتهم بالعلم والمعرفة والتقنيات الجديدة… إنه مشهد يعكس أن هناك «دنيا» ننتمى لها لا تمت بصلة «للدنيا» التى ينتمى لها الآخرون.. دنيانا هى دنيا «عفراتوش»: «دنيا العفاريت والجن والأحجبة والعمل والربط و..إلخ،
ودنيا «روزيتا»: نسبة إلى سفينة الفضاء الأوروبية التى أطلقت ـ فى نوفمبر الماضى ـ مجسا فضائيا حط على سطح المذنب 67 الذى يبعد أكثر من 500 مليون كلم عن سطح الأرض.. وقد يبدو الخبر لمن ينتمى لزمن «عفراتوش» مجرد مغامرة تقوم بها بعض الدول الغنية التى لديها فائض مالى.. إلا أن الأمر ما هو إلا تعبير عن عنوان مختصر لرواية كبيرة من أجزاء عديدة وممتدة. هى ثمرة جهد علمى يتكون من معادلة من عنصرين هما:
■ تضاعف المعرفة وتجدد التكنولوجيا.
(2)
بالنسبة للأولى: تعنى الاكتشافات والمعارف الجديدة التى تدركها الإنسانية، مثل: اكتشاف نيوتن للجاذبية مثلا، وكيف أنه فكر تفكيرا مغايرا لمن قبله. حيث، أولا: اعتمد ثقافة التساؤل كمنهج، بمعنى أنه صار يخضع كل ما يراه للبحث عن دلالاته ومعانيه. ثانيا: بات يطرح أسئلة مختلفة غير نمطية من عينة: لماذا لا تسقط التفاحة إلى أعلى؟.. وهكذا تم اكتشاف نظرية الجاذبية. وعندما نقول نظرية نعنى معرفة جديدة قد تكون صحيحة أو خاطئة، لذا تحتاج إلى اختبار مدى صحتها. عندما ننتقل إلى هذه المرحلة يعنى هذا أننا بصدد استخراج تطبيقات عملية من هذه المعرفة الجديدة فى صورة اختراعات وصناعات… إلخ، وهنا ننتقل إلى العنصر الثانى من معادلة التقدم…
(3)
ثانيا: التجدد التكنولوجى؛ ويعنى الكيفية التى يمكن بها صناعة وابتكار تقنيات حديثة: أجهزة، ومعدات، أدوية،…إلخ. فى ضوء المعارف المختلفة التى يتم اكتشافها… بلغة أخرى الاختراعات والتطبيقات التى أنجزها البشر فى ضوء نظرية الجاذبية التى اكتشفها نيوتن. ولاحقا نظرية النسبية لأينشتاين ودورها فى إنجاز تقنيات حديثة.. وهكذا.
ويقاس تقدم الأمم بتقلص الوقت الزمنى بين كل نظرية وأخرى تالية يتم إدراكها، ومن ثم بين كل تقنية وأخرى لاحقة يتم إنجازها.. لذا أصبح هناك ما يعرف بدورة تضاعف المعرفة، فالوقت الذى كانت تستغرقه البشرية فى إدراك معرفة جديدة يقدر بـ150 سنة، أما الآن فلقد باتت تتضاعف المعرفة: أى إنتاج/ إدراك معرفة جديدة خلال كل سنة، بشكل عام.
وبالتالى أصبحت دورة التجدد التكنولوجى تنتج تقنيات جديدة أكثر من مرة فى السنة الواحدة، لذا نرى جيلا وأكثر من التقنيات الجديدة كل عام.. فى هذا السياق شهد 2014 المنصرم، حجم إنجازات علمية غير مسبوق (وقت انشغالنا بدُنيا عفراتوش)…لماذا وكيف وفى أى مجالات؟
(4)
قبل الإجابة عن هذه الأسئلة، نشير فقط إلى ثلاث ملاحظات أساسية هى: الأولى: أن العلم أصبح يتم من خلال فرق علمية متكاملة/ متداخلة التخصصات. فتجد الفيزيقى مع البيولوجى مع المتخصص فى مجال السكان والمناخ. لم يعد هناك هذا الفصل التعسفى بين العلوم على طريقة: علمى وأدبى. (وهنا نشير إلى ملاحظة حول الكيفية التى يتم بها إنشاء الجامعات الخاصة والتى من المفترض أنها تقدم نفسها باعتبارها أكثر حداثة من الجامعات الحكومية إلا أنها تعيد إنتاج نفس التقسيم التعسفى وهو على أى حال موضوع يحتاج إلى نقاش آخر).
ثانيا: أننا بعيدون جدا عن جديد العلم والمعرفة والتكنولوجيا بدليل أن ما جرى فى 2014 من إنجازات علمية لا نجد لها أى صدى ـ يكاد يكون بالمطلق ـ من أى نوع فى واقعنا. ثالثا: أن هذه الإنجازات ـ وهنا المفاجأة ـ لم تعد حكرا على أمريكا وأوروبا بل تجد دولا مثل: الهند، والبرازيل، والصين، وتشيلى،.. إلخ، حاضرة فى المشهد العلمى والتكنولوجى بقوة وفاعلية… ذلك لأنها انحازت لزمن «روزيتا» وليس «عفراتوش»… ونواصل الحديث عن الدنيا الجديدة.