(1)
عرضنا فى الأسبوع الماضى لملاحظاتنا العامة حول مؤتمر مؤسسة الفكر العربى الذى أقيم بالمغرب مطلع هذا الشهر حول: «حلم التكامل وخطر التقسيم». أما عن مساهمتنا فى المؤتمر فقد كانت فى إطار الجلسة التى ناقشت موضوع: «التحولات الجغرافية /السياسية التى لحقت بالمنطقة ومستقبلها… وهو موضوع اجتهدت فيه مبكراً وتناولته فى كتابى الأول: «الحماية والعقاب: الغرب والمسألة الدينية فى الشرق الأوسط من الدولة العثمانية إلى نهاية القرن العشرين». وقد رصدت فى هذا الكتاب كيف تتم التحولات على أرض الواقع فى منطقتنا من خلال ما أطلقت عليه آلية «الإلحاق ـ التجزئة» من قبل الدول الاستعمارية أولاً ثم القوى العظمى التى ورثت الاستعمار التقليدى لاحقاً بعد الحرب العالمية الثانية. وحاولنا فى مساهمة مكملة عام 2007 أن نرصد ما طرأ من مستجدات فى هذا السياق.. وأخيراً فى مؤتمر فكرى طرحنا رؤية مكملة لما سبق.. فما محصلة كل ذلك؟
(2)
يمكن القول إن المنطقة قد تعرضت منذ الدولة العثمانية وإلى الآن لحالة من «الإلحاق والتجزئة» إلا فترات قليلة استطاعت أن تعيش ما يمكن أن نطلق عليه حالة «انعتاق ووحدة».. ونقصد بالإلحاق/الانعتاق؛ طبيعة العلاقة الاقتصادية التى تنشأ بين دول المنطقة وبين الخارج.. فلقد مالت فى الأغلب إلى أن تكون فى وضع التبعية للخارج. ولم تتحرر من هذه التبعية إلا فى فترات قليلة.. وكما هو واضح أن الإلحاق يعنى دوما إحداث حالة من التجزئة على أرض الواقع. والعكس صحيح فعندما يتحقق الانعتاق أو الاستقلال فإن الوحدة تكون حاضرة.. إذن هناك علاقة شرطية وموضوعية بين:
الاستقلال الاقتصادى والوحدة السياسية من جانب والجغرافيا من جانب آخر؛ إلا أن هذه العلاقة تطورت فى طبيعتها وطريقة تنفيذها منذ سنة 1517 (تأسيس الدولة العثمانية وبدء تبلور العلاقة المباشرة والوثيقة والمنظمة مع الغرب)، وإلى الآن بفعل تغير المنظومة السياسية العالمية (من قوى استعمارية تقليدية إلى قوى عالمية اقتصادية متنوعة بازغة مروراً بالأنظمة ثنائية القطبية والأحادية القطبية) وفى القلب منها النهج الاقتصادى الكوكبى.. كيف؟
(3)
تعرضت المنطقة لثلاثة تحولات كبيرة منذ سنة 1517.. الأول: تحولات فى إطار القبول بالوحدة السياسية القائمة: فى هذا السياق عمل الغرب على التعامل مع الإمبراطورية العثمانية ودولها التابعة فى إطار القبول بالوحدة السياسية القائمة دون تغيير، إلا أنه بدأ فى عملية الإلحاق الاقتصادى للإمبراطورية من خلال ما يعرف بـ«نظام الامتيازات الاقتصادية للدول الأوروبية» الذى بدأ فى الخمسين سنة الأولى من عمر الدولة العثمانية. الثانى: تحولات فى إطار تأسيس دول جديدة ولكن فى إطار شرعية ما يعرف بشرعية وستفاليا التى تقوم على احترام الحدود والسيادة الوطنية ـ نسبيا.. ويلاحظ أن الدول الغربية كانت هى العنصر الفاعل فى إحداث التحولات.. ولكن مع العولمة وهيمنة اقتصاد السوق على الكوكب وتوظيف تكنولوجيا المعلومات والتقنيات الحديثة سقطت الحدود موضوعيا.. وأصبح لـ«الشراكة» القول الفصل فى تحديد مصالح الدول.. وهى نقلة موضوعية بكل المقاييس.. لماذا وكيف؟
(4)
باتت «العقود» الاقتصادية هى مصدر الشرعية.. والشركات هى التى تحدد الخرائط الجغرافية وتستبيح إعادة رسمها.. وهنا يجب تأمل النموذج العراقى ومساره خلال السنوات العشر الماضية وكذلك السودان.. وهو ما بات يمثل خطراً على مكانة الدولة الوطنية وسيادتها واستقلالها النسبى.. ولا شك أن ما أوصلنا إلى ذلك هو الضعف الداخلى الذى بموجبه استباحت الشركات الدول الوطنية (بخلق روابط عابرة للحدود من خلال المعونات والتدخلات المتنوعة والاستثمارات الخاصة بالقلة، ما سمح بحدوث اختلالات فى بنية الدولة الوطنية فى بعض الحالات وبتحلل قومى فى حالات أخرى.. ما سمح بحضور قوى داخلية خارجة على الدولة تتلاقى فى مصالحها مع الشركات بين إسقاط وإضعاف الدولة الوطنية تحاول إعادة ترسيم الحدود.
إنه كابوس التفكيك المتشابك.. ولا حل أمامنا إلا تجديد الدولة الوطنية.. ونواصل.