(1)
المبشرون بالعالم الجديد ومعارفه دائمة التطور، تعبير لم أجد أفضل أو أدق منه لإطلاقه على مجموعة عقول مصرية آلت على نفسها أن تطلع على جديد العالم وأن تقدم اجتهاداتها فيما يفيد مصر والمصريين.. من هذه العقول راجى عنايت، ونبيل على، وشوقى جلال، ومحمد رياض، ومحمد الخولى.. إلخ (أطال الله فى أعمارهم جميعاً) ويمكن أن نضيف عليهم من الذين رحلوا أنور عبدالملك..
دأبوا على مواكبة العصر ورصد أهم ما طاله من تغيرات، وأثر ذلك على مصر وكيف يمكن اللحاق بمسيرة التقدم الإنسانى.. قاموا بذلك فى وقت تراجعت فيه المدارس العلمية والمؤسسات الثقافية والمراكز البحثية المصرية عن القيام بدورها.. قاموا بدور تاريخى لا يقل عما قام به الطهطاوى فى «الزمانات».. بحثوا واطلعوا على إبداعات العقل الإنسانى وعلى تجارب الآخرين وترجموا واجتهدوا واستخرجوا وأبدعوا أفكاراً أظننا فى حاجة لاستعادتها فى لحظات فارقة مثل التى تعيشها البلاد.
(2)
من هذه الكتابات كتاب راجى عنايت: «ديمقراطية جديدة لمجتمع المعلومات» (الصادر عن دار العين للنشر). وهو كتاب يأتى فى وقته تماماً. يأتى أولاً استمراراً لما دأب عليه راجى عنايت منذ الثمانينيات من القرن الماضى على التنبيه أن هناك دنيا جديدة آخذة فى التشكل، دنيا تجاوزت مفاهيم عصر الصناعة انطلاقا من «عصر المعلومات والاتصالات، وله مبادئه وقوانينه التى تختلف عن سابقه بل وتتناقض معه»…ذلك لأننا «بصدد نسق حياة جديد تماماً، تقوم على مبادئ وأسس جديدة فى جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. والفشل السائد، يرجع إلى محاولة فرض حلول تاريخية على واقع مستجد. وفهم طبيعة مجتمع المعلومات الجديد، تفسر لنا سر المشاكل الحالية المتضخمة، فى الاقتصاد، والتعليم، والممارسة السياسية، والإدارة، والأسرة».. وهو ما يلزم الانطلاق إلى المستقبل.. ولكن كيف؟
(3)
يشير عنايت إلى أن الرؤية المستقبلية هى التى تمكننا من الانطلاق وذلك من خلال أمرين هما: التفكير الناقد والتفكير الابتكارى،.. وهذا يستلزم معرفة الأوضاع الحالية فى مصر بدقة.. ورسم خريطة حضارية لشعب مصر.. توضح إلى أى مدى مازلنا نمضى فى حياتنا وفق عقلية وقيم عصر الزراعة، وإلى أى مدى تشيع قيم عصر الصناعة.. وعما إذا كنا قد بدأنا العبور إلى قيم عصر المعلومات، أم لا.. فى هذا المقام يكون دليلنا هو كيف نفهم ونعرف ونستخدم المفردات والمصطلحات.. هل بمعانيها القديمة، دون الاتفاق على معانيها الجديدة فى ظل المجتمع الجديد. فى هذا السياق يأتى موضوع الديمقراطية، وعن أى ديمقراطية نتكلم؟
(4)
كلمة الديمقراطية قد لا تعنى شيئاً فى مجتمع قبلى، ولكنها تعنى الشورى فى المجتمع الزراعى. وقد ابتدعت القيادات الفكرية لعصر الصناعة نوعاً جديداً من الديمقراطية، ينسجم مع درجة تعوق الحياة وتركيبها، أحدث شرخاً فى جسم سلطة اتخاذ القرار دخلت منه أعداد من الطبقة المتوسطة، لم يسبق لها أن دخلت ذلك المجال وكانت تلك ديمقراطية التمثيل النيابى.. واليوم، تفقد- كما يقول عنايت- «هذه الممارسة الديمقراطية جدواها فى كل أنحاء العالم، وبدا المفكرون فى البحث عن أشكال للممارسة الديمقراطية تناسب المبادئ والأسس الجديدة لمجتمع المعلومات، وبدأنا نسمع عن الديمقراطية نصف المباشرة، وديمقراطية المشاركة، والديمقراطية التوقعية».. وبالطبع يمكن أن نطبق ما سبق على كل المفردات والمفاهيم التى نتداولها، من حيث مدى مواكبتها للعصر، وهل مازلنا نستخدمها بحسب معناها فى الماضى أم إدراكنا أهمية تجديدها لتواكب المستجدات.. نجيب فى مقالنا القادم!