كشف تناول الكثيرين للأزمة الأوكرانية عن أمرين؛ الأول عن مدى ابتعادنا المعرفى عن جديد التحولات العالمية.. لذا عندما تصاعدت هذه الأزمة لم نجد لدينا إلا نموذج الحرب الباردة لاستعادته كى نستطيع التعاطى مع هذه الأزمة التى فاجأتنا.. أما الأمر الثانى ونتيجة استغراقنا الشديد فى الهم المحلى، فإنه عندما أدركت السلطة المصرية الراهنة ضرورة التحرك نحو روسيا فى لحظة فارقة فى تاريخنا من جهة وتاريخ المنطقة من جهة أخرى، حكم كثير من التحليلات منطق التوازن القطبى بمنطق الحرب الباردة، فلم تزل روسيا المتمثلة فى الذهن هى روسيا: الاتحاد السوفييتى، ما دلالة ذلك؟ وكيف الخروج من نفق «الكهف والانكفاء» لمواكبة العالم الجديد الآخذ فى التشكل؟
•••
«الحرب الباردة: الانقسام الحدى.. الحرب الهادئة: التقاسم المصلحى»
منذ تعرض العالم للأزمة المالية العالمية فى 2008(لم تكن الأولى فهناك من يرصد أكثر من 125 أزمة مالية عالمية منذ تطبيق سياسات الليبرالية الجديدة فى 1979)، اتخذت الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة أوباما الكثير من الإجراءات الاقتصادية.. شكلت فيما بينها إعاقة حقيقية أن تستمر الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى وحيدة Lonely Super Power، واكب ذلك الصعود الطاغى للصين.. هنا بدأت تطول منظومة العلاقات الدولية تغيرات حادة ولكن بنعومة و«بهدوء».. حيث انتقلت فيها هذه المنظومة من «هيمنة القوة العظمى المطلقة: الأمريكية، إلى «القوة المزدوجة»؛ بحسب تشارلز كراوثامر، أو ما يمكن أن نطلق عليه: «القيادة الثنائية لكل من الصين والولايات المتحدة الأمريكية».. هذه العلاقة المركبة التى يستفيض فى شرحها نوح فلدمان (أستاذ القانون الدولى بجامعة هارفارد) هى التى أدت إلى تكريس ما بات يعرف فى العالم، «بالحرب الهادئة: Cool War» (راجع كتابه الذى يحمل نفس العنوان 2013)؛ وهى تختلف كليا وجوهريا عن «الحرب الباردة»؛ كيف؟
لقد انطلقت الحرب الباردة عقب الحرب العالمية الثانية، وكانت بالأساس بين المنتصرين الأساسيين فى هذه الحرب.. أى الكتلة الغربية والكتلة الشرقية، أو بلغة أخرى بين المعسكرين الرأسمالى والشيوعى.. كانت الحرب تقوم على الصراع الأيديولوجى وتقسيم العالم على هذه الخلفية، وإشعال الصراعات الميدانية بشكل مباشر بأدوات وأساليب متنوعة.
بينما انطلقت الحرب الهادئة وفق بروتوكول غير معلن على ضرورة التوافق الكونى بين قواه القديمة والأخرى البازغة.. توافق يقوم على أولوية الاقتصادى وتعظيم المصالح دون أن يمنع ذلك من ممارسة الصراع التقليدى بالتلويح بممارسة القوة، مع ملاحظة أن الهدف هو تعظيم التوافق الاقتصادى.
صفوة القول لقد تجاوزت المنظومة الدولية مرحلة الحرب الباردة بانقسامها الحدى، إلى الحرب الهادئة بتقاسم الأقوياء المصالح فيما بينهم.. إنها عودة للصيغة القديمة التى عرفها التاريخ لتحكم العلاقة بين الأقوياء: القديم منهم، والصاعدون/ البازغون…(وأقصد بالصيغة القديمة، صيغة: روما القديمة مع قرطاج الصاعدة، وبريطانيا العظمى مع ألمانيا البازغة قبل الحرب العالمية الأولى).
وقد دللنا مبكرا على ما سبق فى دراسة موثقة عنوانها: «إطلالة على التحولات الكونية النوعية الراهنة»، وأخذنا «أوكرانيا مثالا لذلك. وكيف سيتم «تقاسم البرتقالة» الأوكرانية وأهميتها بالنسبة لنا فى سياق التحولات الجارية فى مصر.. فى إطار دراستنا «الروس القادمون».
•••
جدل: التعاظم التقاسم
جوهر «الحرب الهادئة»، يقوم على فلسفة غاية فى التركيب. يستمر الأقوياء فيها أقوياء، ويظل الضعفاء فيها ضعفاء.. ومهما احتدم الصراع بين الأقوياء على موضع ما أو دولة ما، فإنه سوف تكون هناك صيغة للتوافق وتوزيع المغانم فى النهاية مهما احتدم الصراع.. وبحسب الموضع / الدولة، سوف تمارس عملية «التعاظم والتقاسم».. أخذا فى الاعتبار أن صيغة الحرب الهادئة بين الكبيرين الأمريكى والصينى سوف نجدها تتكرر كلما اتجهنا إلى أسفل الجسم العالمى الدولى.. أى ستتكرر هذه الحرب، تارة بين أمريكا وروسيا، وتارة بين أمريكا والاتحاد الأوروبى وبين روسيا والاتحاد الأوروبى.. وفى ما يعرف بالمناطق الحيوية وهو تعبير قدمناه للقارئ العربى مبكرا سوف نجد مثلا فى الشرق الوسط تارة ستكون الحرب الهادئة بين تركيا وإيران، وتارة بين إيران وإسرائيل، وهكذا يحدث صراع معلن جوهره تقاسم دولة ما أو موضع، تقاسم يعنى من الوجه الآخر تعاظم هذه الدول.. وهكذا.
ويعد ما جرى حول أوكرانيا نموذجا عمليا لما سبق، (أعلن أوباما أثناء كتابة هذه السطور عد تدخل أمريكا عسكريا فى أوكرانيا)، وهو ما ستتعرض له أى دولة مطلوب، تقاسمها لسبب أو لآخر، وربما يكون التقاسم من قبل دول كبرى أو دول صغرى، كل حالة بحالتها.. وحول ما جرى فى أوكرانيا فلقد أغنانى أستاذنا جميل مطر فى شرح أهمية أوكرانيا بالنسبة إلى مصر من جهة (راجع مقاله العميق والثرى على صغره: لماذا اهتمامى بأوكرانيا؟، المنشور فى الشروق 20 مارس الماضى)، وفهم جديد لتحولات العالم الذى غبنا عنه كثيرا (وفى هذا المقام راجع مقال الأخ العزيز الأستاذ عمرو خفاجى: «هل بدأنا فى التآكل؟»، الذى يركز على فكرتى الابتعاد والغياب عن الأحداث العالمية، المنشور أيضا الخميس الماضى 20 مارس 2014)، من جهة أخرى.
•••
ما أحوجنا لفهم ما يجرى فى العالم بدقة وقراءة كتابات تنظر وتهندس للعقود القادمة مثل: كتاب رؤى استراتيجية لبريجنسكى الصادر نهاية العام الماضى.. واثر ذلك علينا خاصة فى لحظة انتقال حرجة نمر بها.. والخروج إلى العالم بعد سبات عميق بنفس التحليلات والإصرار على تحليلات تعود لزمن الحرب الباردة.
نحن أمام زمن يقوم على أفكار مركبة ذات طابع جدلى: صراع وتنافس من جانب، وتعاون وتوافق من جانب.. شراكة اقتصادية عملاقة ما يعنى تنسيق وتوافق من جهة، ودأب على الهيمنة من جهة أخرى.. أى أفكار غير بسيطة تطبق فى واقع دائم الحركة.. ومن الأهمية بمكان دراسة تداعيات الحرب الهادئة ذات السمات المركبة علينا.. لكن الحرب الباردة كانت ذات طابع بسيط وواضح.. فإما أن تكون فى معسكر اليمين أو معسكر الشمال.. بينما فى إطار الحرب الهادئة فإن الدول تتجاذبها الكثير من القوى فى إطار التقاسم، ولا يوجد حليف أبدى فى مواجهة خصم أبدى.. وسوف تحمل لنا الأيام الكثير والكثير فى هذا المقام.
لذا قل الحرب الهادئة ولا تقل الحرب الباردة.. ولننتبه لمسارها ولآلياتها وتفاعلاتها وتحالفاتها المتجددة.