عندما شرعت أفكر عن ماذا اكتب فى مقالى الدورى فى الشروق…أدركت أن المقال سوف ينشر يوم شم النسيم وهو اليوم الذى يلى عيد القيامة المجيد… وسألت نفسى هل من المناسب أن أكتب فى الشأن العام / السياسى فى هذه المناسبة… وأليس من حق الناس أن يلتقطوا الأنفاس قليلا مما يتعرضون أو يشاركون فيه من جراء أحداث ساخنة متلاحقة… فكرت مليا وتذكرت قصة قصيرة لنجيب محفوظ عنوانها «صباح الورد»… قرأتها مبكرا وكتبت عنها أكثر من مرة… ووجدت أن استعادتها وتقديمها للقارئ الكريم فى يوم شم النسيم سيكون فيما أظن أمرا مفرحا ويجدد «الأمل» فينا كما تقول الست.
●●●
بداية، «صباح الورد»، هو عنوان إحدى قصص الأديب العالمى نجيب محفوظ والتى تضمها مجموعته القصصية القصيرة (تتكون من ثلاث قصص) التى تحمل نفس الاسم، ونشرت مكتملة عام 1987…التقط أديب نوبل تعبير «صباح الورد»، هذه التحية المصرية البديعة والخاصة جدا التى اخترعها المصريون ليتبادلوها فى كل صباح فيما بينهم، لتكون عنوان قصة أرادها تعبر عن التنوع المصرى وتعدديته. أو بلغة أخرى عن مصر كحديقة غناء تحتضن كل المصريين على تنوعهم كورود مزدهرة…ولماذا الورد؟ فى ظنى لأنه تعبير عن الجمال والتنوع والرائحة الزكية…
فى قصته «صباح الورد»، استطاع الأديب الفيلسوف نجيب محفوظ أن يعبر عن مصر: « المكان»، و«الزمان»، و«البشر- باقة الورد»، ويعكس بعمق التفاعل المبدع بينهم خاصة فى لحظات النهوض الوطنى، وأن التنوع أحد أهم سمات الشخصية الحضارية المصرية. كيف عبر محفوظ عن ذلك؟
من خلال الشارع الجديد الذى انتقل إليه راوى القصة فى العباسية، قادما من الجمالية، يرسم لنا صورة مصر مع مطلع القرن العشرين. كان تاريخ الانتقال يواكب لحظة تاريخية أشرفت عليها مصر يعتبرها محفوظ أو الراوى «وثبة من القرون الوسطى إلى أعتاب العصر الحديث»، إنها مصر الحديثة…
فنجده يعرض لحياة 15 عائلة احتضنها الشارع الجديد، عائلات: آل إسماعيل، وآل مراد، وآل القربى، وآل الجمحى، وآل مكى، وآل قيسون، وآل حسب الله وفرج، وآل شكرى بهجت، وآل السناوى، وآل الفنجرى، وآل الكاشف، وآل ضرغام، وآل العلوى، وآل كناشة، وآل عديلة الحرة، حيث يستعرض تاريخ مصر من خلال تطور هذه العائلات على مدى ثلاثة أجيال: جيل الآباء، وجيل الأبناء، وجيل الأحفاد، يغطون فترة زمنية تزيد على الستين عاما…
وفى خلفية هذا العرض نجد التغيرات التى حلت بمصر. ولعل أهم ما يمكن التقاطه من خلال العرض التاريخى لهذه العائلات أن التنوع هو ما أعطى للشارع طعمه ونكهته وصورته الجميلة، وأن الخلل بواقع التنوع قد انعكس سلبا على الشارع فأفقدته جماله…كيف؟
●●●
ضم الشارع العائلة الوفدية، والعائلة المتدينة، والعائلة العلمانية من جانب، والعائلة المتفرنجة، والعائلة ذات الجذور الريفية المحافظة، والعائلة ذات التقاليد التركية، والعائلة المدنية المتوازنة من جانب آخر، هذا بالإضافة للعائلات الفقيرة والغنية والأرستقراطية من جانب ثالث. وهناك من كان يفضل الرافعى على العقاد على عكس ما كان سائدا، وهناك من كان وفديا حتى النخاع، وان لم يمنع ذلك أن يوجد من يحترم عدلى والملك. كذلك وجُد من رأى فى الدين طريقا وحيدا للتقدم، وفى نفس الوقت كان هناك من رأى مستقبل الوطن الحقيقى فى الرياضة والفن والثقافة والعمل من دون تناقض مع الاستقامة وسمو الأخلاق وحدد الجهل والخرافات والفقر كأعداء حقيقية لأهل هذا الوطن. وهناك الراديكالى، والفوضوى، وغير المنتمى، ومن عشق الفن.
كما وجد من استمد رؤيته لتطور مصر فى جعلها قطعة من أوروبا مثلما حلم الخديو إسماعيل، ووجد من رأى التطور بالإضافة إلى التعلم من الغرب المتقدم أن يتم الاهتمام بالحضارة المصرية القديمة والإسلامية، انطلاقا من أن الحضارة الغربية ليست حضارة غريبة عنا، فهى لم تسم باسم خاص إلا بسبب النشأة، كما تعد فى الواقع الثمرة الأخيرة فى شجرة الحضارات الإنسانية التى أسهم البشر جميعا فى غرسها. وبالرغم من وجود أقلية تعالت على الشعب واقتربت من السلطة الملكية والانجليز إلا أنه وجدت أغلبية آمنت بدور للشعب وهيأت الطريق لإحداث التغيير وتمكين شرائح اجتماعية وسطى صغيرة للمشاركة فى الحكم وإتمام الاستقلال، بيد أن العناصر التى صعدت وتولت السلطة كان من المفترض أن يعبروا عن مصر المقهورة فى معاناة مشاعرها بالنقص، ولكن أصابهم مركب العظمة فمارسوه على المصريين التعساء بالرغم من الاندفاع فى طريق التصنيع الذى يعد الطريق نحو التحديث، والانجازات الاجتماعية.
أسر عدة عبر عنها الراوى عكست كل ألوان الطيف فى مصر، تتعايش معا فى شارع واحد تتحاور وتتواصل معا بالرغم من التناقضات والتباينات واختلاف التحيزات، من أجل تجاوز الهموم المشتركة. لقد كان التنوع عامل قوة عندما قبلت هذه الأسر فكرة الحياة المشتركة التى احتضنها الشارع الجديد. ولم تمنع التناقضات فى البداية من المحافظة على المودة والحب بين أفراد الشارع…ولكن؟
●●●
مع تعاقب الأجيال، هجر البعض، وانزوى البعض الأخر…وتدهور «الشارع» الجديد الجامع الذى كان يسع الجميع… ووجدنا كل عائلة تكون شارعها الخاص الذى لم تنجح فى أن يكون على نفس مستوى الشارع الواسع الحديث المتجدد… وجدنا الذى يبرز على الساحة المرابى الواقعى الذى قدس القرش وعبده ولم ينتم لأى مبدأ أو رأى أو شرق أو غرب، والحفيد المتطرف الذى كفر والديه، بالإضافة إلى من ترك نفسه للقدر، ومن أسلم حياته للعدم، ومن حصر اهتمامه بقبر، وهكذا أصبح:
• «التجاور» البديل «للاندماج»،
لقد فرقت السبل الناس والتف كل طرف حول تحيزه الشخصى الذى منعه من رؤية الآخر، وتوارى التنوع لصالح طرف يعتقد انه يملك الحقيقة المطلقة وحده ومن ثم على الآخرين أن يتبعوا ما يعتقد وإلا فالتكفير هو السلاح المشهر. وعليه لم يعد الشارع كما كان عليه.
يقول لنا نجيب محفوظ، فى بساطة وعمق، إن عبقرية مصر فى تنوعها المركب المتعدد العناصر، وفى قدرتها على استيعاب التنوع والتفاعل المبدع بين الزمان والمكان والبشر وعليه تكون العلاقة بينهم هى«حاصل ضرب» لا«حاصل جمع»، حيث تعنى الأولى الاندماج والثانية التجاور؛
وأخيرا«صباح الورد» على المصريين بتنويعاتهم من دون تمييز على قاعدة المواطنة…
«صباح الورد» على التعددية والاندماج لأنها تعنى القوة والنضارة.
لا الأحادية والتجاور: الضعف والذبول…