عرف فن الجرافيتى مع انطلاقة 25 يناير.. إنه فن شعبى بامتياز.. تجده على الجدران والأسفلت ومن حولك فى كل مكان.. يعبر عن مكنون المواطنين من أفكار ومطالب وأمنيات وأحلام.. يعبرون عنها ببساطة وعمق فى آن واحد.. تجد كل مدارس/درجات التشكيل الفنى من خطوط وصور تصرخ بالفن عن كل ما هو مسكوت عنه فى حياتنا، وتوثق كل وقائع المرحلة الانتقالية: نجاحاتها وسقطاتها.. وتخلد وتمجد كل من سال دمه من أجل مصر جديدة.. وأكثر من ذلك.. نعرض له فى مقالنا اليوم..
الخربشة بداية التغيير
ظهر فن الجرافيتى ظهورا بارزا مع انطلاق ثورة 25 يناير. استخدمه الثوار ليعبروا عن احتجاجهم ويعلنوا مطالبهم. لذا عرف الجرافيتى بأنه فن «مقاومة من الدرجة الأولى». ووفق الدراسة الموثقة لمليحة مسلمانى المعنونة: «جرافيتى الثورة المصرية»، تقول إن الجرافيتى يشهد فى مصر: «ثورة موازية للثورة المصرية، بانتشاره وتطوره السريعين»، على مدى عامين، «ومازال يواصل مسيرته فى التطور ــ بالموازاة مع استمرار الحراك الشبابى فى مصر الساعى إلى تأسيس دولة الحرية والعدالة والاجتماعية والديمقراطية». ويذكر أن فن الجرافيتى نفسه يعد تاريخيا وسيلة احتجاج سياسية واجتماعية، وأداة تعبير متحررة من القيود التقنية والمؤسسية، ووظيفة تؤدى دورا مهما فى أوقات الأزمات من خلال القضايا التى يطرحها». حيث ينتشر فى لحظات الحراك الثورى وفى وقت تشتد فيه المقاومة ضد الظلم والفاشية والقهر. وقد عرفته بلدانا كثيرة.
وتقول الباحثة إن كلمة جرافيتى: Graffiti تعنى: «الرسم أو الخربشة على الأسطح والجدران». ويعود أصلها إلى الكلمة الإيطالية Sgraffio أى «الخدش»، ومرادفها فى اليونانية كلمة Graphein وتعنى «الكتابة».
ويشمل تعريف الجرافيتى كل ما يدون على الأسطح والجدران، بدءا بالعلامات أو الشعارات البسيطة، ونهاية بالتكوينات والجداريات الملونة والمعقدة. هذا التعريف الواسع للجرافيتى يتضمن أيضا صنوف الرسومات كلها، بدءا من العلامات أو التوقيعات البسيطة، ونهاية بالرسومات السياسية، ومختلف الأدوات المستخدمة فيها من علب الرش، وفرش الدهان والألوان، والأقلام والملصقات والقوالب المفرغة أو ما يعرف بالاستنسل.. إلخ.
الخلاصة أن الجرافيتى هو «فن الشارع» أو ما يمكن ان نطلق عليه «فن تعبير الناس عن أنفسهم فى البراح العام»، كسرا لكل القيود وتجاوزا لكل المحاذير.. فن متحرر من المحاذير ودائم التطور والإبداع.. يمارسه الناس كل الناس ويستهدف الناس.
●●●
الجرافيتى تعبير عن زمن جديد
وتسجل الباحثة إرهاصات استخدام الجرافيتى فى مصر منذ 2007، وكيف تعاملت معها الإدارة باعتبارها تجاوزات تتم إزالتها بسرعة دون الوقوف كثيرا عن الرسائل التى تحملها الرسومات. كما حاولت وزارة الثقافة استيعاب هذا الأمر فى الفترة ما بين 2008 و25 يناير من خلال أماكن محددة تحول دون الانطلاق فى الشارع.
كان الهم الأول للبيروقراطية الفنية والأمنية هو الحيلولة دون انتشار الفن. لم يلق أحد اهتماما لتنامى هذه الظاهرة، وماذا تعنى؟ وما دلالتها الرمزية؟ والرسائل التى تتضمنها الرسومات والأشكال؟ ومدى ارتباط هذا الفن بالشباب ودلالة ذلك؟ وارتباط فن الشارع بوسائل التواصل الاجتماعى البازغة؟
إنها مصر جديدة تتشكل خارج الأطر النمطية. بعيدا عن المؤسسات التقليدية الأبوية والسلطوية: تعليمية، وثقافية، ودينية.. إلخ. مصر شابة جديدة تريد أن تعبر عن نفسها بطريقتها وبأسلوبها وخارج القنوات الرسمية دون توجهات ونماذج يحتذى بها للتكرار.. يريدون أن «يسخرون» و«يصرخون» على طريقتهم.
وتسجل الباحثة كيف أن أحد أهم الرسومات المبكرة كان لفتاة اسمها آية طارق حيث رسمت «رسما لدماغ بشرى ملون، كتب بجواره الثورة تبدأ هنا».. فى حين يصور عمل آخر قبضة اليد المضمومة، الرمز الثورى المعروف، لكن اليد فى الرسم تمسك أداة الطلاء، ورافق الرسم عبارة كن مع الفن».
وازدهر الجرافيتى، لأنه تاريخيا يزدهر حيث توجد أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية، وينتشر ويتطور مع استمرار تلك الأزمات ويصبح سائدا ومقبولا فى سياق الحراك الثورى.. ويصبح موظفا بالكامل لرفض الظلم والقهر وحيل السلطة، ولتوثيق المظالم وتدوين التضحيات البشرية والمادية التى قام بها الثوار والمحتجين.
●●●
الجرافيتى فن التعبير عن المواطنة
ومع انطلاق الحراك الثورى فى مصر، انطلقت «أدوات التعبير والاحتجاج كلها لدى الشباب، وكان الجرافيتى حاضرا بقوة رمزا لكتلة طالعة حية تعبر عن زمن جديد حيث يصنع فيه الشباب عالمهم/دنيتهم الجديدة: صورا ولغة وأفكارا بعيدا عن أى رقابة أو توجيه من أحد. يعبرون عن أنفسهم وعن أمنياتهم وعن آرائهم دون تجميل أو تزويق بلا حسابات أو توازنات. يشكلون وعيهم بأنفسهم من خلال الواقع والممارسة، لا من خلال التلقين والمحاكاة.. فانطلق الشباب فى كل بقعة من بقاع الكنانة «يفنون» بشتى الوسائل.. وما أن يمارس الجرافيتى فى مناخ ثورى وفى سياق سياسى نضالى فإنه يصبح بامتياز:
• فن التعبير عن المواطنة
المواطنة كحركة يمارسها المواطن/المواطنون من أجل اكتساب الحقوق وتحقيق المساواة والعدالة وتأمين الحريات. فهو تارة يحمل مطالب المواطنين، وتارة يسجل نضالاتهم، ويحاكم الطغاة ويرصد الخونة، ويوثق صور وأسماء الشهداء والمصابين، وتارة يرسم أشكالا فنية ذات مغزى محذرة من الأخطار أو المؤامرات، أو يصنع أشكالا يوجد بها علاقات بين عدة موضوعات.
• إنه «الإعلام الميدانى للثورة»، إن جاز لنا أن نقول ذلك.. حيث بات يشكل وجدان وفكر المواطنين ويجعل ذاكرة النضال حاضرة من حولنا فى كل مكان.. فمن منا لا يعرف وجوه: خالد سعيد، والشيخ عماد عفت، وسالى زهران، ومينا دانيال، وأحمد حرارة؟
ويقينا أنه مع كل مذبحة من المذابح التى شهدتها ميادين التحرير فى كل مصر، ومع كل واقعة ميدانية.. يزداد الجرافيتى تطورا فى مضمونه وتطبيقاته.. وتزداد «الخربشة»، ويستمر النضال والابداع الحر..لقد قلنا إن 25 يناير قد أسس للمواطنة الفعل.. تحية لكل فنانى الجرافيتى ولـ«خربشاتهم» التى تؤسس لمصر جديدة.