«لا معنى للدساتير ما لم تحُدث فرقا»
هذه العبارة أطلقها أحد أهم أساتذة القانون الألمان، والذى شارك فى إعداد كثير من النصوص الدستورية فى أوروبا. فالدستور الذى لا يعبر عن الجديد الذى أتت به لحظات التغيير التى أنجزتها الشعوب، أو لا يلبى طلبات المواطنين فى إعادة بناء مؤسسات وبنى وهياكل وتجديدها، أو يراعى تجسيد كل ما ثار عليه المواطنون مباشرة أو ضمنا…سيكون على هذا النص الدستورى المنتج أو بالأحرى على منتجيه مواجهة أزمة كبرى. ومن ثم نصبح جميعا بسبب هذا الدستور فى مأزق إذا ما استعرنا عنوان كتاب جون فين.
وبدلا من أن يصبح الدستور سببا لإحداث فرق فى حياة الشعوب نحو الأفضل، حيث يجد كل مواطن أحلامه وطموحاته منصوصا عليها فى الدستور بما يضمن تحقيقها. نجد الدساتير قنابل موقوتة فى حياة الشعوب. والسؤال ما هى العوامل التى تجعل الدساتير تحدث فرقا؟
25 يناير: مساران…الميدان والبرلمان
لقد حررت 25 يناير مصر من الكثير من القيود. لقد كانت العملية السياسية تدار على مدى عقود بحزب حاكم وبيروقراطية أمنية. وفجأة انكشفت هذه العملية ورفع الغطاء عنها. وانطلق المواطنون يتحركون ويبادرون ويحتجون ويطرحون تصوراتهم حول كل كبيرة وصغيرة فى مصر. حركة خارج كل ما هو مؤسسى نمطى بلا إذن من أمن أو تصريح من جهة هنا أو هناك. فكل الشرائح التى تحركت تجاوزت الأبنية القديمة. حركات دينية تجاوزت المؤسسات التقليدية إسلامية ومسيحية. حركات عمالية وفلاحية تمردت على الاتحادات الرسمية التى دأبت على استيعابها وترويضها لصالح كل القرارات الفوقية التأميمية فى دولة يوليو الثورية ودولة يوليو المضادة على التوالى. وكتل شبابية من كل الانتماءات لم تجد من يهتم بها أو يتيح لها أى فرصة.
كان من المفترض أن يكون لهؤلاء الذين تحركوا موضعا فى مصر الجديدة…ولكن لأسباب كثيرة تفرقت مسيرة الشراكة الوطنية التى أطلقتها 25 يناير إلى مسارين هما :مسار البرلمان، ومسار الميدان. وكون مسار البرلمان نخبته التى فوضت نفسها وضع دستور للبلاد…وهنا كانت الإشكالية…كيف؟
من مبدأ المواطنة إلى فعل المواطنة
كانت هناك فلسفة حاكمة للحراك الشبابى الشعبى الذى انطلق فى 25 يناير. فلسفة وحدت بين الجميع. لم يختلف أحد حول الكرامة الانسانية ولا الحرية ولا العدالة الاجتماعية. وبالرغم من أن العناوين التى وحدت المصريين كانت كبيرة إلا أنها كانت تعكس مضمونا عميقا. فلقد كانت تعنى الحركة التى اختبرها المصريون لأول مرة بعيدا عن السلطة فى الدولة الحديثة حيث انتقلت المواطنة من المبدأ إلى الفعل. من الحديث عنها إلى ممارستها. من النص عليها إلى جعلها واقع. وعليه تشكل واقع جديد لابد من تقنينه فى وثيقة تعبر عن هذا الجديد كما تعبر عن الجهد الجماعى الذى بذل بين كل المواطنين. إنها وثيقة الشراكة الوطنية التى نجحت فى إنجاز معتبر غير مسبوق ألا وهو إسقاط الحاكم وميلاد فعل المواطنة.
فى هذا السياق، تبدأ عملية مركبة / جدلية بين عدة أمور منها:
●الدوافع التى أدت بالمواطنين إلى التحرك.
● وإلى الشعارات التى رفعوها وتعكس الحد الأدنى للشراكة الوطنية التى تحققت.
● ما تحقق فعلا.
● وأى مستقبل بات ينشده المواطنون.
فى ضوء ذلك يبدأ التفكير فى التعبير عن ذلك من خلال ما يعرف بالدستور. شريطة أن يحضر الجميع انطلاقا من مبدأ الشراكة الوطنية الذى نجح فى إحداث تغيير مهما كانت درجته.
إلا أن ما جرى على أرض الواقع هو أن الوعاء الذى عنى بذلك كانت تحكمه من البداية فكرة «الغلبة». لأن من تحكم فى تحديد هذا الوعاء هو الانتصار السياسى البرلمانى. لم يمثلوا أصحاب الجهد الحقيقى ممن ينتمون إلى الميدان فى كتابة وثيقة الشراكة فمال الرأى وبإصرار على أن تكون النسبة الأكبر من أعضاء الهيئة التأسيسية من البرلمانيين والتى ستنتمى بداهة فى وجود أكثرية سياسية من هيمنة تيار بعينه. وهنا تتحقق الغلبة عمليا وهو ما يتنافى مع المواطنة دستوريا وثوريا.
وهنا يحضرنى حرص السياسيين فى جنوب أفريقيا على تشكيل مجلس دستورى يعبر عن قوى التجديد والراغبة فى إنهاء نظام الفصل العنصرى. وفى كل مراحل إعداد الدستور والتى استغرقت أكثر من خمس سنوات. مع ملاحظة كيف تجنبوا فى تشكيل المجلس الدستورى أى احتمال قد يتيح أن يعيد توازن القوة الذى كان سائدا قبل ذلك ويعيد البلاد إلى ما كانت عليه.
وأظن ونتيجة «للغلبة» جرى ما جرى (راجع مقالنا فى الأهرام «مصر الجديدة بين دستورى المواطنة والغلبة» مارس 2012).
غلبة قد تعيد إنتاج القديم
بداية وبالإضافة إلى الملاحظات القانونية التى طالت تشكيل اللجنة التأسيسية، نجدها وقد اتسمت بأنها تنقسم إلى اسلاميين وغير اسلاميين. ولأن منهج الغلبة ساد (وهو تعبير استخدمناه منذ مارس 2011 فى مقال بعنوان: دولة المواطنة لا تبنى بالغلبة). بدأنا نسمع كيف أن المسألة لا تحتاج أى قلق فلدينا دستور 1971 ويمكن إجراء تعديلات عليه. وهناك من قال إن الأمر هو عمل قانونى محض ومن ثم فنى سوف ينجزه القانونيون مع إضافة بعض الأمور التى نؤكد بها على هوية الأمة. وللتدليل على ما سبق، قال قائل هناك دول كانت تكلف بعضا من الدستوريين المصريين لإنجاز الدستور بعيدا عن كل هذه الضوضاء.
وبالطبع مجرد الإعلان عن ذلك مع إلحاح أصحاب المصالح على استعجال الدستور كى تدور العجلة و…الخ، جاء الدستور كما رأينا فى المسودة التى أعلن على أنها مسودة أولى.
وقبل أن نقرأ تفصيلا ما جاء فى الدستور نشير فقط إلى عدة أسس تم الاتفاق عليها عند كتابة الدستور نذكرها كما يلى:
● يجب أن يكون الدستور امتدادا للتراث الدستورى السابق لا خروجا عليه أو انحرافا عنه.
● فإذا كتبت نصوص دستورية بدرجة متقدمة فى لحظة تاريخية معينة لا يجب أن يعاد كتابتها بشروط فى الدستور الحالى.
● يجب أن يواكب الدستور الموجات الحقوقية المتعارف عليها والتى تعبر عن تقدم الأمم والمجتمعات، فلا يصح أن ننتج دستورا لا يأخذ بجديد الموجات الحقوقية،
● تقاس أهمية الدساتير بالمدى الذى تصل إليه فى أن تمس بنية علاقات الإنتاج من جهة، وقدرتها على ابتكار نصوص تدفع إلى التجديد المؤسسى الذى يسمح بأن يكون فعل المواطنة حقيقة والديمقراطية جوهر حركة المؤسسات.
● الاقتراب من قضايا المجتمع المدنى واللامركزية باعتبارها المحك الأساسى الذى سيتم من خلاله اختبار التغيير وكيف تكون تلبية الحركة المواطنية التى باتت تنتظم فى روابط وحركات وائتلافات ونقابات مستقلة واتحادات..، خارج الانتظام التقليدى الذى كانت تعرفه مصر من أحزاب وجمعيات واتحادات عامة حكومية، وكيف يتم الاستجابة إلى كل ذلك دون قيود تواكب ما سعى من تحول حثيث نحو الانطلاق فى حرية التنظيم بعد أن انطلق،
● كذلك إلى أى حد يعبر الدستور الجديد عن مواجهة كل سوءات النظام القديم: فإذا عرفت مصر أكبر عملية نهب لأراضى الدولة ألا يحتاج الدستور نصا يواجه هذا الأمر…
الخلاصة، إن لم يؤخذ هذا فى الاعتبار وبات الأمر هو استعادة دستور من الماضى و«تأييفه» بغطاء يظُن أنه يحفظ للأمة قوتها فى مجال الهوية هو فى واقع الأمر إعادة انتاج لواقع يبدو لى أن هناك من البنى القديمة تتبنى وتتمنى وربما تتحالف حتى لو كانت هناك تناقضات بينها من أجل استعادته…
وهنا مربط الفرس…ومكمن الخطورة…وبهذا المعنى هل سيحدث الدستور فرقا فى حياتنا…