أظن أنه بعد مرور ما يقرب من سنة ونصف من حراك 25 يناير الشبابى الثورى، بات من الضرورى أن نعنى بعض الشىء بالاقتراب من مناقشة نجاحاتنا واخفاقاتنا خلال الفترة الانتقالية. شريطة أن تتحلى النقاشات بالمنهجية العلمية التى تعصمنا من السقوط فى فخ الكلام المرسل الذى ينحو إلى التجريح أو النميمة أو التشهير. مصر تحتاج إلى نقاشات معمقة حول الدولة وطبيعة السلطة بعد 25 يناير وحول وضع الطبقة الوسطى التى أراها قادت عملية الحراك فى 25 يناير ومستقبلها، وأى مشروع وطنى تحمله القوى السياسية للمستقبل وهل يعبر عما تحرك من أجله الناس، وهل ما نشهده هو انقطاع عن الماضى أم صراع بأثر رجعى تأخر بعض الوقت.. هل تأسست الجمهورية الثانية بالفعل أم أنه لم يزل الصراع قائما بين الجمهوريتين الأولى والثانية.. هل الصراع الذى أعتبره يقع فى خانة الثقافى أى الصراع الذى أُستغرقنا فيه منذ الاستفتاء آخذا لافتات متعددة من عينة: الدينى والمدنى، الاسلامى والليبرالى، الاسلامى وغير الاسلامى، السلفى والليبرالى، يعد هو الصراع
الصحيح الذى يجب أن نخوضه أم أن الصراع الحقيقى هو الصراع بين أصحاب المصالح والمواطنين الفقراء.. بين شبكة المصالح والذين على باب الله.. ألا تستحق المسألة الاجتماعية الاقتصادية والسياسات العامة المعبرة عنها الاهتمام وفى أى اتجاه تميل.. وأخيرا ألم يحن الوقت لتقييم المرحلة الانتقالية وهل العملية الديمقراطية تسير فى مسارها الصحيح بالرغم من التعثرات التى تعرضت لها؟؟.. كل هذه الاسئلة وغيرها لابد أن تحظى ببعض الاهتمام..
فى هذا السياق نطرح بعض الأفكار حول العملية الديمقراطية وفى مقال قادم نتحدث عن المسألة الاجتماعية والاقتصادية.
الديمقراطية: تأسيس أم تفريط
من خلال الخبرات التاريخية المتنوعة هناك اتفاق على أن العملية الديمقراطية تتكون من دولة ــ بالمعنى الواسع للكلمة ــ، والمواطنون، والمؤسسات المتعددة. ويقاس مدى الاتجاه نحو الديمقراطية وإقامتها أو الإطاحة بها ــ بحسب تشارلز تيلى بمدى وجود مشروع لدى من يحكم ينحاز للمواطنين ــ على اختلافهم ــ وتظهر تجلياته واضحة فى التشريع والسياسات العامة والسلوك المؤسسى.
بهذا المعنى لم تعد الديمقراطية ذات بعد سياسى فقط وإنما لها وجه اجتماعى يراعى كل المواطنين على اختلاف توزيعهم فى الجسم الاجتماعى وعليه بات هناك ما يعرف بـ«الديمقراطية الاجتماعية». بلغة أخرى لم يعد مقبولا أن تقتصر العملية الديمقراطية على الصيغة القديمة التى تتكون من نخبة المدينة أو الحاضرة مع حشد جماهيرى موجه (حزب حاكم ــ عزوة ــ قبيلة) فى الأطراف لجماهير بما يخل بالعملية الديمقراطية فى جوهرها. فالعملية الديمقراطية فى صورتها الحديثة لابد أن تقوم على المواطنة وفق المصالح الاجتماعية والاقتصادية على قاعدة عدل سياسى واقتصادى.
بهذا المعنى تتكامل الديمقراطية السياسية والاجتماعية. سياسيا يحضر المواطن بغض النظر عن انتمائه الأول إلى المجال السياسى ــ المدنى على أساس موقعه الطبقى والاجتماعى وهنا يلتقى بمن لهم نفس المصالح ولكن يختلف معهم فى الدين أو اللون أو الجنس… إلخ. ولأن حضور المواطن بات سياسيا وأصبح يناضل مع الآخرين لاكتساب الحقوق، فإنما يعنى هذا أن تتوقف الكتل الأولية عن طلباتها التى تتقدم بها إلى الحاكم خارج العملية الديمقراطية. حيث تعبر هذه العلاقة عن الحالة التى عرفت فى الدولة العثمانية بين الحاكم والملل. وعندئذ تعد استجابة الحاكم لطلبات الملة أقرب للمنح والامتيازات لأنها جاءت خارج العملية الديمقراطية ودولة المؤسسات. ولا يخفى على الباحثين والدارسين أن تكريس هذه العلاقة يعنى استعادة النظام الشمولى آخذا فى الاعتبار أن من يمنح يمكن أن يمنع.
على النقيض فإن النظام الديمقراطى تتكون عناصره من المختلفين لا المتماثلين أى «المواطنة» لا الملة، ويكون النضال السياسى لاكتساب الحقوق للجميع الذين قبلوا بالمواطنة صفة مساحة جامعة للمختلفين. فهنا يمكن أن يلتقى أبناء الشريحتين الوسطى والدنيا من الطبقة الوسطى من الأقباط والمسلمين والرجال والنساء… الخ، فى المصالح ومن ثم يناضلون معا من أجل اكتساب الحقوق ليس للملة وغنما لعموم المصريين.
على الجانب الاجتماعى لابد من فهم أن هناك بعدا اجتماعيا للديمقراطية يجب أن يراعى من حيث الحرص التشريعى أن يكون فى صالح كل المواطنين: طبقيا وجيليا ونوعيا. فالحد الأدنى الذى تم الاتفاق عليه ــ من منظور المواطنة ــ لتحقيق المساواة هو تأمين المساواة فى الحقوق إذا صعب تحقيق المساواة بين الطبقات. وهنا نشير إلى كيف أن تداول السلطة تم فى تشيلى من تحالف اليسار الذى استمر على مدى 15 عاما تقريبا وبين رجل أعمال دون أن يحدث خلل فى الحقوق الأساسية للمواطنين.
من جانب آخر لابد من إدراك أن جزءا من مؤشرات التى تعكس تأسيسا طيبا للعملية الديمقراطية هو حضور الكتل النوعية المنتجة فيها كثل العمال والفلاحين من خلال تنظيمات معبرة أو أحزاب حاملة لهمومهم وهو ما أظنه غير حادث بعد.
الديمقراطية: مؤشرات الصحة
من مؤشرات التأسيس الجيد للعملية الديمقراطية بحسب الخبرة العملية والميدانية لكثير من الدول نذكر اربعة مؤشرات (راجع تشارلز تيلى فى كتابه الديمقراطية ،2007)،وذلك كما يلى:
أولا: الاتساع breadth، ثانيا: المساواة، ثالثا: الحماية، ورابعا: المشاورات الملزمة ــ المتبادلة Mutually Binding Consultations.
يقصد بالاتساع إلى أى مدى تعكس العملية الديمقراطية القدرة على قبول قطاعات جديدة سكانية للانضمام إلى العملية الديمقراطية. وبالطبع لابد وأن تكون هذه القطاعات السكانية من الشمول بحيث تتضمن شبابا من الجنسين كذلك أنواع مختلفة من الأماكن التى ينتمى لها هؤلاء السكان. أما الحماية فيعنى إلى أى مدى أثناء التحول الديمقراطى استطاعت الدولة أن تفرض حمايتها بما يضمن تأمين المواطنين على المشاركة السياسية أو العكس. وهل الحماية تتوفر إلى أصدقاء السلطة دون غيرهم أم تمتد إلى الجميع وبخاصة فى ممارسة العملية السياسية من لقاءات جماهيرية وانتخابات بأشكالها. ونأتى إلى المساواة كتجسيد حى وواقعى للمواطنة وهل تتحقق المساواة من خلال العملية الديمقراطية أم يتكرس التمييز الإثنى. وأخيرا الالتزام الوطنى والمؤسسى الناتج عن المشاورات المتبادلة بين القوى السياسية والبنى المختلفة بألا تكون هناك رشاوى حزبية أو حكومية مثلا أو تقديم منافع للمقربين لهذا أو ذاك.
إن العمل على تحقيق الحدود القصوى لهذه المؤشرات ــ قدر الإمكان ــ يضمن دعم العملية الديمقراطية بتجلييها السياسى ــ المدنى والاجتماعى ــ الاقتصادى، وهى العملية التى سوف تصل بنا إلى الديمقراطية التى نريدها: ليست ديمقراطية القلة الثروية أو الدينية أو المذهبية أو العائلية أو المصلحية أو كل ذلك.. وإنما ديمقراطية دولة المواطنة.. وضعف هذه العناصر سوف يعكس تراجعا للعملية الديمقراطية.. وهو ما يحتاج منا إلى نقاش معمق من جهة، وابتكار الآليات الداعمة للعملية الديمقراطية نحو المزيد من الترسيخ ومواجهة كل ما من شأنه إعاقة الديمقراطية.