قد نختلف أو نتفق على الدعوة إلى «العصيان المدنى». ولكن قطعا لا يوجد ما يجعلنا نقبل بممارسات تصورنا أننا تجاوزناها بعد الحراك الشبابى الشعبى الثورى الذى انطلق فى 25 يناير 2011. وتحديدا أقصد هو التعامل مع الدعاوى الثورية بمنطق التحريم والتأثيم باعتبارها «كفرا» أو «إثما». يمكن تفهم وجهة النظر التى تشرح وتفسر ما سيترتب على هذه الدعوة من نتائج وتحاول ان تتواصل مع مطلقى هذه الدعوة مؤكدة على منطق الحوار والتواصل فى لحظة تحول سياسى حرجة ودقيقة. ولكن اللجوء إلى منطق وضع الدين فى مواجهة
الحراك السياسى والاجتماعى بغض النظر عن رأينا إنما يعكس ردة ينبغى لفت النظر إليها. لقد عانت مصر كثيرا من جراء تجميد التطور المجتمعى تارة بالتأميم السياسى والمؤسسى فى مرحلة النهوض الوطنى المستقل وتارة فى مرحلة التراجع والنكوص «بالتأثيم» الدينى لدعاة الحراك. وها هو بعد مرور عام على انطلاقة 25 يناير نستعيد ممارسات عتيقة باسم التأثيم وأخشى ما أخشاه أن نستعيد التأميم… ودعنا نلقى بعض الضوء على ما تقدم.
إعاقة وتقييد التقدم
«تأميم» الحياة السياسية تعبير أطلقه المفكر الكبير الراحل محمد سيد أحمد فى وصفه للحياة السياسية فى الفترة الناصرية (1952 ـ 1970). فعلى الرغم من أننا نعتبر هذه الفترة الجزء الآخر من المرحلة النهضوية الوطنية المصرية فى وجهها الاجتماعى ـ حيث كانت الفترة من 1919 إلى 1952 الجزء الأول من هذه المرحلة فى بعدها المدنى والسياسى ـ إلا أنها لم تستطع أن أن تستمر فيما أسسته ثورة 1919 فيما يتعلق بالسياسى والمدنى. نعم كان هناك اهتمام بالعدل الاجتماعى خاصة للشرائح الاجتماعية الوسطى والدنيا إلا أن العمل السياسى تم تأميمه بالكامل من خلال نظام سياسى يقوم على الحزب الواحد وتم التعاطى مع التنوع المجتمعى عبر إعادة تنظيم تجمع كل فئة نوعية فى تنظيم واحد يتم التعاطى معه كممثل لهذه الفئة وتحديدا مع من يرأس هذا التنظيم. فعلى سبيل المثال وجدنا كل عمال مصر وقد اعتبرهم النظام السياسى لونا واحدا وتم تأميم حركتهم فى اتحاد عمال مصر. وتم تقسيم المجتمع إلى فئات نوعية حيث يتم اختزالهم فى وسطاء قد يكونوا أفرادا أو مؤسسات. فى هذا السياق تم التعامل مع الأقباط فبعد أن كانت هناك شخصيات قبطية مدنية تم التعاطى معهم أولا عبر التكنوقراط والانتلجنسيا ثم تاليا عبر المؤسسة الدينية. وهو ما وصفناه لاحقا (فى إحدى الدراسات) استعادة «للملية» وتأسيس للعثمانية الجديدة، حيث المجتمع يتكون من فئات نوعية لابد لها أن تنتظم بمعزل عن بعضها البعض وهكذا يسعل التعامل معها سياسيا وأمنيا. وتم التراجع عن كل اللوائح الديمقراطية التى كانت تعمل الانتخاب الحر المباشر وكان القانون 32 الشهير المنظم (المقيد) لتأسيس المؤسسات والجمعيات…الخ. ونتيجة لما سبق نجد المجتمع وقد تحرك بشكل موازى لبعضه البعض دون اندماج. عمل الدين فى هذا السياق دون أن يصل إلى حد التكفير وأنتج خطابا تقدميا حول الفقر والعدالة…الخ (راجع مقالنا التقدم ونمط التديُّن: فكراوخطابا وممارسة بجريدة الشروق أكتوبر الماضى). وفى ظل التأميم السياسى مارس الدين مهاما دارت حول الشرعية والتعبئة والتبرير (بحسب نبيل عبدالفتاح).
وعلى الرغم من التأسيس الحزبى الثانى الذى عرفته مصر فى سنة 1975 قد حرك بعض الشىء المجالين السياسى والمدنى، إلا أنه جاء فى سياق مجتمعى دعم وجدد من الأشكال التنظيمية الأولية السابقة للدولة الحديثة مثل القرية، الطائفة، العزوة، فباتت الأحزاب ـ عمليا ـ وكأنها دخيلة على جسم الدولة الذى بات رئيسها هو كبير القرية. فى هذا الإطار المختلط كان من الصعب ممارسة «التأميم» السياسى ـ فقط ـ من خلال البيروقراطية الأمنية والإدارية، فى مواجهة الحراك السياسى نحو الحداثة من جهة،ومقاومة المعارضة السياسية والاجتماعية. وعليه تم الاستعانة بالحل الناجع والناجز ألا هو استخدام الدين وتوظيفه تارة بما يمكن أن نطلق عليه «التأثيم» الذى قد يتطور فى بعض الحالات إلى «التكفير» و«التحريم»…
تحالف «الكريول» المصرى
إذن استطاع المشروع الوطنى ومحاولة إقامة العدل المجتمعى من 1952 غلى 1970 قللتا من الآثار السلبية للتأميم السياسى والمدني. بيد أن غياب الديمقراطية الحقيقية بالرغم من التعددية الحزبية الشكلية والانقلاب على مشروع التحديث الصناعى ورأسمالية الدولة إلى ما هو أدنى من ذلك بكثير سمته السمسرة والتوكيلات والاحتكارات السلعية والإنهاء على الثروة الزراعية المصرية الذى أدى إلى غياب العدالة التوزيعية للناتج القومى ومن ثم تكون مجتمع الخمس. وعليه كان لابد من استخدام ما يؤمن المجتمع فتم توظيف الدين فى «تأثيم» كل من تسول له نفسه أن يثور على الأوضاع. وتشكل تحالف «الكريول» Creole، وهو مصطلح عرفته قارة أمريكا اللاتينية فى القرن التاسع عشر (تعرفنا عليه أثناء دراستنا لحركة لاهوت التحرير فى أمريكا اللاتينية التى نشرت فى مجلة القاهرة ـ يناير 1994). تتكون عناصر هذا التحالف من كبار مالكى الأرض الزراعية والنخبة الدينية وعناصر القوة السائدة آنذاك فى المجتمع. ويلعب هذا التحالف دورا محافظا على الوضع القائم وفى القلب منها مصالحهم خاصة مع فشل ـ إفشال الحكومات المدنية الوطنية فى إنجاز ما يحقق الخير لجمهور المواطنين. حدث هذا التحالف بدرجة أو أخرى فى الحالة المصرية. وهو ما ظهر بوضوح بعد انتفاضة 1977 حيث انطلقت فتوى أن الحاكم يستشير ولكنه غير ملزم بالاستشارة، وكيف أن الانتفاضة محرمة شرعا. وكيف تم تبرير السلام دينيا…الخ.
واستمر هذا الأمر فى الفترة الثانية من مرحلة التراجع المصرية من 1981 فى ظل انفراجة مدنية. ولكن النظام استطاع أن يستمر فى ممارسة التأثيم ولا مانع من استعادة التأميم من المرحلة الناصرية. أُستخدم الدين من جانب للتأثيم، وأُستخدم التأميم من جانب آخر فى مواجهة التقييد السياسى.
الحوار..الحوار ولا سبيل إلا الحوار
جاءت 25 يناير لتجدد الدولة الحديثة التى تقوم على المؤسسات وتتجاوز الأشكال الما قبل حديثة ذات الطابع الأبوى. الذى تلعب فيها المؤسسة الدينية دورا عضويا لا يصطدم باسم الدين محرما ومؤثما ما هو سياسى ومدنى، لأن ما قد يبدو الآن غير مقبول قد يكون مقبولا فى لحظة تالية وخاصة عندما تعُرف معلومات ويتم استعادة التحليل المجتمعى للظواهر التى تفسر طبيعة التحيزات والتحالفات. فاللحظة الثورية نفسها تعرضت للرفض فى وقت من الأوقات من قبل المؤسسات الدينية ولكنها نالت التأييد لاحقا.
الخلاصة علينا ونحن فى فترة تحول سياسى أن نؤسس لتقاليد نتقدم بها إلى الأمام فليكن الحوار هو أداتنا ولتلعب مؤسساتنا الدينية دورا فى تجسير الفجوة والتواصل بين الرؤى المختلفة دون الوقوع فى مدى شرعية ما ينادى به البعض ومن ثم استعداء البعض الآخر على أساس دينى وهو أخطر ما جرى هذا الأسبوع. من حق كل فرد أو مؤسسةأن تنحاز لما تراه خيرا للوطن ولكن دون أن يترجم هذا إلى استعداء البعض على البعض. ولكن نتواصل ونتحاور ونحرص على الوصول إلى حد أدنى من التوافق. وليس غريبا أن نجد البعض وقد باتوا يحاسبوا أقرادا ومواطنين على أنهم لم يسمعوا رأى مؤسساتهم الدينية وهو نقيض ما كنا نسمعه فى لحظة تاريخية سابقة على ضرورة تمييز المواطن بما يؤمن من تصورات سياسية وفكرية عن المؤسسة الدينية.
الاختلاف هو سُنة من سنن الله فى الأرض… وقد مضى زمن التطابق ومضى زمن إخفاء المصالح المتعارضة والمتناقضة وراء أى رابطة من الروابط.