25 يناير كانت لحظة انطلاق شرارة الحراك الشبابى الشعبى… ومعها انطلقت الآمال والأحلام والتوقعات أن مصرا جديدة آخذة فى التشكل.. ساهم فى هذه الانطلاقة أن كل المصريين دون تمييز كانوا حاضرين فى هذه اللحظة يحدوهم الأمل فى تجاوز الأوضاع المتدهورة التى باتت مثار غضب كل المواطنين… وحدت الأوضاع المتدهورة بين المصريين من تراجع الخدمات واحتكار قلة للثروة وغياب التوزيع العادل للثروة على أغلبية المصريين واستشراء الفساد وتخلف البنى المجتمعية المختلفة، وتأكد على أرض الواقع أن هذا التدهور لا يفرق بين مواطن وآخر فكلنا فى الهم سواء.. وفى هذا السياق تبين أن ملف التوتر الدينى كان من نتاج الاستبداد وأنه يدار وفق سياسات معينة من أجل شغل الناس عن القضايا الحقيقية وأن عقود النزاع الدينى قد آن أوان تجاوزها.. وعليه كانت حالة الحراك الوطنى التى عرفتها مصر وشارك فيها الجميع على اختلافهم… ولكن وآه من «ولكن»…
نكبة العراك الدينى
فبدلا من أن يتكاتف المصريون ما بعد 25 يناير لبناء وطنهم معا ويستمرون فى حراكهم الوطنى وتجاوز مراحل النزاع الدينى التى بدأت فى 1970، نجدهم وقد ابتعدوا عن بعضهم البعض مع أول خطوة من خطوات خارطة الطريق لبناء مصر جديدة أى مع استفتاء 19 مارس. لم ننتبه إلى نكبة التعبئة الدينية ومدى الأثر المدمر الذى سوف يحدث عندما ينزل المواطن من منزله وهو معبأ دينيا ليحدد موقفه. إنها عودة عن الحراك الوطنى وتقسيم الوطن إلى مسلمين ومسيحيين وإلى دينيين وليبراليين وإلى حداثيين وماضويين… الخ. إنها القسمة المدمرة التى تؤدى قطعا إلى العودة إلى الارتداد إلى خنادق الذات والتمترس بها والتوحد بتصورات يظن أنها الأصح والأصوب والأنقى والأفضل فى كل شىء. فى هذا السياق حدثت إطفيح وتلاها ما جرى فى إمبابة فى ظل مناخ يعيد النظر فى الوضع القانونى لغير المسلمين وحقهم فى بناء الكنائس طارحا فقها مغايرا عن الفقه الذى عرفته الخبرة المصرية. ويضاف إلى ما سبق أن العلاجات الحكومية قد جانبها التوفيق فلقد اعتمدت على الفتوى الدينية والعرفى على حساب القانون وهو ما اعتبر استمرارا لنفس السياسات التى دأب على ممارستها النظام قبل 25 يناير وكأن الحراك الوطنى الذى شارك فيه الجميع من أجل دولة المواطنة التى تقوم على إعمال القانون والمساواة لم تكن.
والنتيجة أن فتر حماس البعض فى المشاركة السياسية من جهة كما فقد البعض الثقة فى إمكانية بناء دولة المواطنة بالمعنى الذى عرفته الخبرة المصرية فى نضالها المشترك واقتربت فى مراحل النهوض منها بدرجة أو أخرى. انتاب الفتور وفقدان الثقة بالأساس الشرائح الوسطى من الطبقة الوسطى. بيد أن الشرائح الوسطى العليا استمرت فى حراكها ولكن فى المقابل ظل الشباب الذين ينتمون إلى ما أطلقنا عليهم مرة (مطلع هذه السنة فى الشروق عقب حادثة القديسين) «الطبقة الخطرة» الطبقة الغاضبة والتى تتمرد على كونها محتجة على واقعها الذى اختلطت فيه الهوية الدينية مع الحاجة الاجتماعية. الطبقة الغاضبة الخطيرة خرجت من حزام المدينة من المرج وعين شمس الخصوص ومسطرد والدويقة ومنشية ناصر والوراق. وقلنا إن غضبتها فى ظنى ليست دينية محض. وقلت أيضا إنها غضبة علينا أن نتفهمها وأن نحتضنها وأن نحمد لها أنها تحتج وإن رفعت مطالب خاصة إلا أنها تطالب بمطالبها فى سياق المجال العام المدنى وهذا يستلزم من القوى المدنية والسياسية أن تستوعبهم فى أُطرها. والنتيجة أن وصلنا إلى ما حدث فى ماسبيرو.
كارثة الاشتباك الميدانى
يعد ما جرى فى ماسبيرو بغض النظر عن التفاصيل كارثة بكل المقاييس. ففيها تجسدت كل تجليات مراحل النزاع الدينى (حددناها بأربع بداية من 1970وهى: العُنفية، والاحتقان، والسجال الدينى، والتناحر القاعدى) على مدى العقود الأربعة الماضية. المراحل التى أدى التأخر فى علاج تداعياتها إلى الكفر بكل شىء وأن نصل إلى ما وصلنا إليه. وأن يصبح قطاع من المصريين فى مواجهة مع مؤسسات الدولة. إنه فصل جديد أو New Chapter فى كتاب المصريين ولاشك، سوف تترك ندوبا أتمنى ألا تصل إلى حد الشروخ أو أكثر من ذلك سوف تتطلب منا جميعا بغير استثناء أن نعمل على ترميمها لأن مصر لا يمكن أن تكون مصرا إلا بحضور مكوناتها وبتعدديتها وهو الذى لم يزل غير مدرك عند بعض التيارات والقوى.
اللافت هو ردة فعل البعض الذين كرروا نفس الروايات المقيتة والحجج السخيفة من جانب، وتناول البعض نفس التحليلات ومحاولة تقديم علاجات كانت تنفع فى مراحل أو فصول سابقة. فبعض أن حدث التصلب الدينى الذى بتنا نشاهده من قبل بعض التيارات أدركنا أهمية تنظيم بناء دور العبادة ووضع القواعد المنظمة له حتى يتفرغ المصريون معا للتنمية التى يعنى النجاح فيها المراضاة الحق لله.
لم ننتبه كيف أن إصرار قطاع من المصريين على المطالبة بالحقوق مهما كان رأينا بدلا من اللجوء إلى الهجرة كما حدث فى الحالة العراقية وغيرها هو أمر لابد من تعظيمه وأن الفشل فى استحضارهم إلى المجال السياسى هو فشل للقوى السياسية التى كان عليها أن تعيد الكرة وتحاول أن تدمجهم فى الحياة السياسية آخذا فى الاعتبار الانتشار غير المسبوق لتيارات تخلط بين الدين والسياسة وليتها تقدم خطابا دينيا معنى بالتنمية والعدل الاجتماعى ومواجهة الفقر… الخ، ولكنها تقدم خطابا يصب فى التدين الشكلى.
من جانب آخر عكست بعض العلاجات أننا نعيد إنتاج كل ما كنا نشتكى منه فى السابق وفى إعادة التعاطى مع الشأن الدينى عبر الكيانات الدينية ومن خلال افكار بيروقراطية لا سياسية.
الخلاصة كلنا مسئولون عما وصلنا إليه وأخشى ما أخشاه أن نصل إلى ما وصفته فى دراسة أجريتها فى 2007 عقب واقعة العياط وطورتها عقب نجع حمادى 2010 حيث طرحت سيناريوهات ثلاثة للمستقبل: أولها سيناريو دولة المواطنة، أو سيناريو الدولة العثمانية حيث ينتظم أفرادها فى ملل وطوائف لها قدر من الاستقلال الداخلى، أو سيناريو الدولة الدينية حيث الانتظام على أساس دينى فى المجتمع.
إننا نحتاج إلى لحظة حق نرد بها على السؤال هو أى مصر نريد وهل يمكن أن نجدد حراكنا الوطنى المشترك أم سوف ننزلق إلى العراك الدينى والاشتباك الميدانى.