فى لحظات الارتباك الكبرى التى تشهدها الأوطان ربما يكون من المفيد الاطلاع على خبرات وتجارب الآخرين. فى هذا السياق وقع فى يدى كتاب مهم عن الديمقراطية التشاركية فى مواجهة الديمقراطية النخبوية دروس من البرازيل. الفكرة الأساسية فى هذا الكتاب تقول إن محطات التغيير الحاسمة فى حياة الشعوب ترتبط بالقدرة على التوحد والدمج بين القوى الاجتماعية والسياسية المختلفة وخاصة فى مواجهة نظام قديم كان يكرس الإقصاء لصالح شبكة امتيازات مغلقة. وأن الديمقراطية هى حالة تحول دائمة ديناميكية تعمل على دمج قوى اجتماعية وسياسية جديدة تخلخل بها شبكة الامتيازات المغلقة من خلال ما يعرف بإعادة تكييف البنية المجتمعية برفع قدراتها الدمجية للقوى الجديدة أو ما يعرف بـInclusionary Adaptation
والسؤال هل يتحقق هذا فى مصر أم التحول لم يزل محتجزا ولماذا؟ وكيف واجهت الموجة الأولى من الحراك التوابع المضادة؟
الثنائيات والاستقطابات
يبدو لى أن الموجة الأولى للحراك (بحسب تعبيرنا الذى وصفنا فيه الحراك الشبابى الشعبى فى مقالنا بـ«الشروق» 28/2 الماضى)، قد واجهت كثيرا من التوابع المضادة التى لم تمكنها من تطوير الفعل التغييرى الذى حدث فى 25 يناير كى يستوعب كل القوى المجتمعية بشكل ديمقراطى غير إقصائى. لذا فإنه يمكن القول وفى ضوء الخبرة البرازيلية إن الخطأ الذى وقعت فيه النخبة السياسية المصرية عقب 25 يناير هو عدم القدرة على خلق الوعاء الذى يجمع القوى الوطنية بغض النظر عن الأوزان النسبية. والتأكيد على أن الوطن لا يبنى بالغلبة أو بتيار دون آخر. فالدولة الحديثة قامت على التوافق بين الدينى والمدنى ومصر ثورة 1919 احتملت أن يخرج منها سعد زغلول ولطفى السيد ورشيد رضا. ومصر 1952 كانت تمثيلا للقوى الوطنية الفاعلة فى حينها بدرجة أو أخرى. فالنهوض لا يتم بانقلاب طرف على باقى الأطراف وإنما بتضافر كل القوى. لم نلتفت أنه منذ الاستفتاء الذى جرى ومصر فى حالة من الاستقطاب الحدى. وأن كل عوامل القلق المجتمعى Societal Unrest باتت متوافرة فى المجالين العام والسياسى. لذا وجدنا مصر تقسم حزبيا إلى ليبراليين ودينيين، وحوارتنا تصب فى اتجاه مجموعة من الثنائيات من عينة: دينى/مدنى، مواطنة/ذمية.. إلخ. جرى هذا إلى أن وصلنا إلى الجمعة الماضية. فماذا كانت رسالتها؟
البيوريتانيون الجدد
رسالة الجمعة الماضية تقول ــ بامتياز ــ بأن هناك انقساما. الانقسام الحاد ــ أساسا ــ حول مستقبل مصر بين رؤيتين ومرجعيتين. وهو ما وصفناه بانقسام مصر إلى مدينتين (راجع مقالنا فى «الشروق» 9/5 الماضى قصة مدينتين: عن مصر الحديثة والسلفية)، وأن هناك قصتين يتم نسجهما لا قصة واحدة لمصر: الأولى مدنية فى غير خصومة مع الدين تمثل استمرارا للخبرة المصرية التى اختبرتها تاريخيا فى بعض لحظات الصعود المصرية فى الدولة الحديثة. والثانية دينية/سمائية/نقية ترى أنه آن الأوان لمصر أن تطبق شرع الله، نقطة ومن أول السطر. ولعل ما حدث فى الجمعة الماضية ومن خلال الشعارات التى تم تبنيها يقول بإن هناك قوة دينية بيوريتانية أو ما يمكن أن نطلق عليهم «الدينيين البيوريتانيين»، يرون أن لديهم الحق فى رسم صورة مصر المستقبلية منفردين. ويستند البيوريتانيون الجدد إلى قاعدة اجتماعية شعبية نجحت فى توفير الأمان الاجتماعى لها فى ظل حكم شبكة الامتيازات المغلقة ذات الطبيعة الاحتكارية الريعية أو ما وصفناهم بالليبراليين الجدد. كما حمتهم أخلاقيا من خلال خطاب دينى نقى.
هل المصالحة ممكنة؟
إن الدرس المستفاد مما سبق وهو ما نلمحه فى التجربة البرازيلية. هو أن هناك ضرورة لرأب الصدع بين النخبة السياسية التى فتحت ثغرة الحراك من خلال التقنيات الحديثة أو الطليعة الشبابية الرقمية والتى تنتمى إلى الطبقة الوسطى العليا بالأساس. وبين البيوريتانيين الجدد الذى كانت القاعدة الشعبية فى عهدتهم فى ظل سياسات اقتصادية ولا سياسات اجتماعية لم تنتج إلى الفقر والتصدع الاجتماعى والعشوائيات. ففى الحالة البرازيلية نجد النخب السياسية تحرص على خلق آليات ديمقراطية قادرة على استيعاب المتغيرات غير الإقصائية وفى نفس الوقت نجد حركة دينية تعنى لا بالبيوريتانية الدينية النقية وإنما بقراءة دينية مجتمعية ذات صبغة راديكالية تقدمية ضد القهر والظلم الاجتماعى تجتهد فى فهم موازين القوى الاجتماعية والتعاطى مع قضايا غاية فى التعقيد اقتصادية وثقافية وعلمية، محلية وكونية. وعليه نجد قدرة ونجاحا فى جعل الديمقراطية «حالة تحول دائمة ديناميكية منفتحة»، ومن ثم انطلق التحول السياسى ولم يحتجز.