كثيرة هى القضايا المطروحة التى تحتاج إلى نقاشات معمقة. وكثيرة هى التساؤلات التى تحتاج إلى إجابات مقنعة. فبعد 25 يناير انشغلنا بكثير من الأمور. أمور يبدو لى أن هناك من يحاول عمدا أن يشغلنا بها، مما ينتج عنه تحويل النظر عن القضايا الحقيقية. لذا نجد أن هناك ما يشبه الاتفاق العام بأن هناك حالة اقرب إلى السيولة تمر بها مصر.
فالكل فى حالة ترقب بالرغم من الحيوية التى أطلقتها 25 يناير. بيد أن عدم الحسم فى الكثير من الأمور يعمق من حالة القلق ويعلى سقف المطالب عند البعض ويدفع بالإحباط عند البعض الآخر. النتيجة هو أن القضايا الرئيسية لا نكاد نقترب منها قضايا من عينة أى دولة نريد؟ أو أى نموذج تنموى نريد؟ على أى حال، نؤجل الحديث حول هذا الموضوع، ونركز على حالة السيولة التى نشهدها.
وأظن أنه من المفيد فى اللحظات التى تتسم بالسيولة بحسب الكثيرين أن نتذكر بعضا من خبراتنا التاريخية للاسترشاد بها أو بعض من الخبرات المقارنة للاهتداء بها.. ومن لحظات التحول المتعددة التى عبرت بمصر سوف أختار اللحظة التى تلت يوليو 52 مقارنة بما أعقب 25 يناير.
يوليو 52 ـــ 25 يناير: أوجه التشابه
بداية اخترنا هذه اللحظة التاريخية ليس لأنها أفضل من ثورة 1919. فنحن ننظر لتاريخنا الوطنى كحلقات تاريخية متواصلة لكل منها إنجازاتها وإخفاقاتها، إلا أن هناك بعض من ملامح التشابه التى يمكن أن نقارن بينها بين يوليو 52 و25 يناير. ملامح التشابه بين التاريخين يمكن إجمالها فى الآتى:
● اشتداد المسألة الاجتماعية: فى حالة يوليو 52 كانت الهيمنة على المقدرات الاقتصادية فى مصر لكبار ملاك الأرض المصريين وللمصالح الأجنبية المسيطرة على مؤسسات المال والتجارة من بنوك وشركات، كما كان المجتمع الريفى ينقسم بحدة إلى 0.5% من الملاك يمثلون أكثر من ثلث الأراضى الزراعية، وفى مواجهتهم أحد عشر مليونا من الفلاحين المعدمين. وفى حالة 25 يناير نجد السياسات النيوليبرالية وقد أدت إلى توزيع غير عادل للثروة بالإضافة إلى النزوع الريعى.
● تنامى المسألة الشبابية: فى حالة يوليو 52 بدأ صعود فئات شبابية من أبناء الطبقة الوسطى تسعى إلى أن يكون لها مكان فى الحياة السياسية، فلم تجد فى الأحزاب القائمة موقعا لها، وهو أمر منطقى فلا الانتماء الاجتماعى ولا المكانة أو السن يؤهل هؤلاء الشباب فى احتلال أى موقع فى الكيانات السياسية الموجودة، فباتوا خارج النخبة السياسية. وفى 25 يناير وجدنا أن المحرك الرئيسى لها هو الشباب الذين لم ندرك أنهم صاروا يمثلون أكثر من 65% من إجمالى سكان مصر وأنهم يمثلون كتلة ضاغطة.
● حضور الجيش كمؤسسة وطنية ترمز لانصهار المصريين: كانت تمثل طليعة التغيير فى يوليو 52 وتؤكد أنها حاضنة للتغيير فى 25 يناير.
● وجود أيديولوجية دينية تعبئ الناس.
● قوى سياسية واجتماعية بازغة تريد أن تعبر عن نفسها.
مما سبق نجد أن الحراك من أجل التغيير كان طبيعيا وموضوعيا ومشروعا، هذا عن أوجه الاتفاق فماذا عن أوجه الاختلاف؟
يوليو 52 ــــ 25 يناير: أوجه الاختلاف
أظن أن الاختلاف يكمن فى الرؤية والتوجه والانحياز والاختيار. فلقد استطاعت يوليو 52 فى غضون ثلاثة أيام من قيامها إخراج الملك، وخلال شهور تمكنت من إخراج الإنجليز وتحقيق الاستقلال الوطنى. وخلال شهور أن تعلن قانون الإصلاح الزراعى تلبية لاحتياجات اجتماعية ملحة ومعالجة للمسألة الاجتماعية الآخذة فى الاحتداد آنذاك.
أما الآن فنحن مستغرقون فى الإجراءات والتفصيلات الصغيرة. فلا أحد يقول لنا عن رؤيته مثلا للخيار الاقتصادى الذى على مصر اتباعه. فليس من المعقول أن تستمر نفس السياسات التى أدت بنا إلى ما نحن عليه. ولا يقول لنا أحد أى شىء عن السياسات الاجتماعية التى يجب اتباعها وفق الجديد فى العالم.
لقد مس التغيير فى يوليو 52 البنية الاجتماعية والاقتصادية. تغييرا طال أوضاعا:
● مؤسسية كانت مستقرة لسنوات خاصة فى «علاقات الإنتاج بسبب الإصلاح الزراعى (1952)، وتأميم قناة السويس (1956)، والمشاريع الأنجلو فرنسية (1957)وتأميم المشاريع المصرية الكبيرة (1961 ـ 1964)».
● طبقية عميقة: لم يكن الأمر سهلا ويسيرا، بيد أن الوعى بنوعية التغيير المطلوب المتجاوز الإجراءات والتقنيات الذى لا يهدم بناء الدولة المصرية كان متوفرا. وفى كتابه المركب «المجتمع المصرى والجيش»، يشرح أنور عبدالملك بدقة بالغة كيف كانت طبيعة الصراع الداخلى القائم بين رأسمالية قديمة لا تريد أن تشارك فى التنمية والخوف من تزايد الفجوة فى الثروة والدخل بين طرفى المجتمع ما يعنى انقسام المجتمع إلى طبقتين متميزتين: كطبقة أقلية تملك مدخول الإنتاج، وأخرى يزداد عددها باستمرار لن تتمتع إلا بقسط ضئيل من مدخول الإنتاج. واقع الحال إنها كانت عملية «تفكيك للبرجوازية القديمة»، بحسب أنور عبدالملك، خاصة مع إحجام هذه البرجوازية القديمة عن التعاون مع النظام الجديد، وبقيت بمفكريها الاقتصاديين وبإطاراتها الإدارية الكبيرة والمتوسطة، وبرأسمالها الهائل،…و… قوة مستقلة غير منخرطة فى البنية الاقتصادية الجديدة. لذا صدرت مجموعة من «المراسيم الاشتراكية والقرارات الجمهورية التى ستبدل بشكل أساسى توازن القوى الاجتماعية القائم». ويمكن تصنيف هذه المراسيم والقرارات إلى ثلاث مجموعات نوعية من القوانين (يمكن مراجعة كتابات على الجريتلى وحسين خلاف أيضا) وذلك كما يلى:
1- قوانين متعلقة بإعادة توزيع الدخل القومى.
2- قوانين تؤمن هيمنة القطاع العام على المشاريع الخاصة والمؤسسات الاحتكارية.
3- قوانين متتالية للإصلاح الزراعى.
مما سبق بالتحديد يكمن الاختلاف. كيف؟
السيولة سببها الحيرة بين الثوب الجديد والرقعة الجديدة
يبدو لى أننا نريد أن ننجز التغيير دون إحداث تغييرات حقيقية فى البنى الاجتماعية ـ الاقتصادية. وللتبسيط هل سيظل نفس من قادوا قاطرة التنمية تجاوزا هم أنفسهم من يقودون. ولماذا الاستغراق فى قضايا لا تمس الجوهر بالإضافة إلى انتشار خلافات تدخل فى حيز الدينى ولا تعد من الأصول وإنما هى من فروع الفروع.
ومن الأسئلة التى أظنها مشروعة ولا تأتى على جدول أعمال الكثيرين ومن ضمنهم أصحاب الخطاب الدينى كيف نعظم ثروتنا الوطنية وكيف تكون هناك رؤية وسياسة آمنة تضمن توزيع عادل للثروة يشعر به كل المواطنين وبخاصة فى القاعدة. إن السيولة الحالية فيما أظن سببها إننا نريد أن ننجز إنجازات راديكالية بآليات إصلاحية. ولا ندرك أنه لا يمكن استنساخ جديد من القديم. والمسألة فى ظنى إما ثوبا جديدا أو لا.
وأنا هنا أستطيع أن أتفهم أنه لا ينبغى أن يحدث ذلك على حساب تفكيك الدولة بالمعنى الواسع ولا مؤسساتها الوطنية.
بيد أن الأمر يحتاج قدرة عالية من الوعى بضرورة تفكيك القاعدة الاجتماعية أو شبكة المصالح التى أدت بنا إلى ما نحن عليه.
لقد كانت التحولات الراديكالية الجارية فى مصر 52 تمتد إلى عمق البنى الاجتماعية من خلال إحداث تغييرات جذرية اقتصادية ومالية مركبة رافقها تغييرات تشريعية وقانونية ومؤسسية. وكان هناك إدراك بأن هذه التحولات لن يكون مدى تنفيذها السياق المصرى وإنما سوف يتعداه إلى خارجها.وعندئذ تلتقى السياسة والاستراتيجية ويتجدد الرصيد الحضارى المصرى: التاريخ والجغرافيا والثقافة، حيث كل ما سبق يسهم متفاعلا فى أن يكون الرافعة للتحولات النهضوية الاقتصادية والاجتماعية.