لم أصدق ما شاهدت من أفلام (بالمئات) تبث على اليوتيوب تعكس المدى الذى بلغه الاحتقان بين المسيحيين والمسلمين.. أفلام مصنوعة بعناية تتضمن رسائل إعلامية حادة يرفعها كل طرف تجاه الطرف الآخر.. الطرف الإسلامى فى أكثر رسائله الإعلامية اعتدالا ينادى بمقاطعة الأقباط نتيجة الإحساس بأن هناك من يخطط للتقليل من الإسلام وإضعافه (أقول اعتدالا لأن هناك قوائم اغتيالات وقوائم خاصة برجال الأعمال الأقباط.. إلخ).. وعلى الجانب الآخر يشعرك الأقباط بأنهم فى حالة استغناء عن الآخر لهم عالمهم ودنيتهم كملة أو جماعة دينية من جراء أحداث العنف الدينى المتتالية..
أى أن تفاعلات المجال الرقمى والتى باتت تشكل عقول ووجدان الملايين تتراوح بين المقاطعة والاستغناء فى أفضل الأحوال.. ترى إلى أين تأخذنا؟
مصر بين الرؤية الذمية والممارسة الملية
إن ما يجرى فى المجال الرقمى أو دنيا اليوتيوب والفيس بوك.. الخ، ما هو إلا تجسيد عملى حر دون رقيب أو ضوابط لما سمحنا به وقبلنا بحضوره بيننا فى الواقع العملى.. وتركناه يتراكم على مدى عقود وهو ما أطلقت عليه «التفكيك الناعم».. تفكيك يسرى فى جسم الجماعة الوطنية يسمح بتجاور مكوناتها ويضعف التفاعل بينها.. خاصة فى الشرائح الوسطى والدنيا حيث تكثر المشاكل المجتمعية.
وأحيل هنا إلى خبرين دالين نشرتهما جريدة «الشروق» خلال شهر أغسطس الماضى يفصل بينهما أربعة أيام.. الخبران نشرا بمعزل عن بعضهما البعض ولكنهما فى واقع الأمر إذا ما تم وضعهما إلى جوار بعض يصوران المشهد الحالى للعلاقات الإسلامية ــ المسيحية..
الخبر الأول نشر فى 17/8، يعلن انضمام 600 شاب قبطى لأحد الأحزاب بعد عدة لقاءات مع قيادات الكنيسة بالجيزة..
الخبر الثانى ونشر فى 21/8، حيث يؤكد فيه أحد أعضاء مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان والملقب بمفتى الجماعة موقف الجماعة من منع تولى الأقباط الرئاسة».
واقع الحال أن الخبرين يعكسان الصورة الحالية للحالة الإسلامية ــ المسيحية فى مصر ويقربان الفكرة التى نحاول أن ندلل عليها.
أقباط ينضمون لحزب سياسى عبر قيادات الكنيسة.. إنه سلوك الملة التى تحدد لشبابها الانخراط السياسى وفق مصالح الملة.. أستطيع أن أتفهم أن توصى الكنيسة بأهمية المشاركة السياسية من أجل الخير العام.. وتترك الأمر للشباب من خلال الحركة فى المجال العام يختارون ما يرونه يعبر عن أفكارهم: ليبراليين أو يساريين أو ناصريين أو حزبًا وطنيًا.. ولكن أن يتم الدفع بـ600 شاب مرة واحدة للانضمام إلى حزب واحد عبر الكيان الدينى فهو أمر يحتاج إلى تأمل.. لأنه يكرس الممارسة السياسية على أساس دينى بما يتعارض مع المواطنة.. المفارقة أن الحزب السياسى الذى قبل بالتوافد الجماعى للشباب.. قبل بذلك ليس عبر لقاءات سياسية وكورسات تثقيفية وإنما عبر لقاءات مع قيادات كنسية بحسب ما جاء فى الخبر.. شىء يذكرك بالاتحاد السوفييتى وأوروبا الشرقية..
إن المشاركة السياسية بهذا الشكل ما هى إلا تكريس للملة وللممارسة الملية التى تقوم على الرابطة الاثنية والتحرك ككتلة فى المجتمع.
وفى المقابل نجد كيف أن الإسلام السياسى لم يزل غير حاسم لأمره فيما يتعلق بالموقف من المسيحيين: فهم غير جديرين بالمساواة.. فالولاية العامة لا تجوز لغير المسلمين.. فالدولة بحسب المتحدث الرسمى باسم الجماعة ــ نفس الخبر ــ أن الدستور المصرى يستند إلى الشريعة الإسلامية وأن ما أجمع عليه العلماء أنه فى الدولة التى يكون فيها عدد المسلمين أكثر من غير المسلمين لا يجوز أن يتولى غير المسلم الولاية».
وهكذا تدور العلاقات الإسلامية ــ المسيحية بين الرؤية الذمية لغير المسلمين من قبل الإسلام السياسى والممارسة الملية للأقباط.. وفى ظل هذين الموقفين: «الذمية» و«الملية» تحدث الكثير من النزاعات الدينية المتنوعة التى تزيد التصلب فى العلاقات بين المسلمين والمسيحيين.. وتؤدى إلى ما يلى:
تحرك ملى وتعبئة إسلامية
منذ أكثر من سنتين كتبنا أن التوتر الدينى فى مصر قد تجاوز «حد الأمان».. وحاولنا أن ندلل على ذلك من خلال دراسة مطولة قمنا بانجازها مطلع هذا العام عقب جريمة نجع حمادى عنوانها «العلاقات المسيحية ــ الإسلامية فى مصر قبل وبعد الدولة الحديثة: المواطنة الثقافية أو فيروس التفكيك»، نشرنا جانبا منها فى جريدة «الشروق» آنذاك.. ورصدنا كيف أن التوتر الدينى فى مصر منذ سنة 1970 وإلى الآن قد مر بأربع مراحل كما يلى: أولا «المرحلة العُنفية» من قبل جماعات العنف الدينى تجاه الأقباط، وثانيا «مرحلة الاحتقان» وتحول أية واقعة جنائية يكون أحد طرفيها مسلمًا والآخر مسيحيًا إلى واقعة دينية، وثالثا مرحلة «السجال الدينى»، ورابعا «مرحلة التناحر القاعدى» حيث تحدث مواجهات بين المسلمين والمسيحيين لأسباب عديدة: بناء كنيسة، تحول دينى، وببلوغنا للمرحلة الأخيرة قلت إننا بتنا نتجاوز حد الأمان الذى من مظاهره التفكيك:الناعم والصلب..
ورفض البعض أثناء مناقشته للدراسة تعبير «التناحر القاعدى».. وها نحن وبعد شهور وجدنا مظاهرات ومظاهرات مضادة دينية الطابع موقعها الشارع، تعبر عن الاستقطاب الذى بلغته العلاقات المسيحية الإسلامية وتبلور ديناميكية واضحة وصريحة مضمونها:
تحرك ملى من جهة وتعبئة إسلامية من جهة أخرى
وما لم تستطع أن تعلنه هذه الديناميكية على أرض الواقع بوضوح لاعتبارات تتعلق بأن الخبرة التاريخية لم تزل تحمل بعضًا من إبقاء الجسور بين المصريين من أجل بناء الوطن الواحد ولأن المعاناة المجتمعية لا تفرق عمليا بين فرد أو آخر.. بيد أن المجال الرقمى أو عالم الإنترنت بوسائله الجديدة يفصح بفجاجة عما لا يفصح عنه فى الواقع.. وخطورته، من جهة، أن الناشطين فيه صنعا وتلقيا هم الأجيال الجديدة من الجانبين.. ومن جهة أخرى، أن خطابه يتضمن مفردات قاسية وثقيلة على القلب والعقل.. ولا يتصور أنها تعبر عن مصر التعددية والتعايش.
خطاب إسلامى يطالب «بمقاطعة» الأقباط.. وخطاب قبطى مضمونه «الاستغناء» عن العيش المشترك
هذا هو مضمون مطالب ديناميكية التحرك الملى والتعبئة الإسلامية فى الإنترنت والتى يتم إعلانها بوضوح ودون مواربة.. وعلى الرغم من وجود تجليات لهذه الديناميكية على أرض الواقع إلا أنها ليست بالوضوح الذى يمكن أن نراه فى دنيا الإنترنت.
هل قررنا هدم الجسور؟
طرحنا هذا السؤال منذ فترة.. وعلى الرغم من قسوة هذا السؤال.. فإن ما يتم تداوله عبر التقنيات المتجددة فى دنيا الإنترنت من «يو ـ تيوب» و«فيس بوك» و«مواقع الدردشة» و«المواقع المتخصصة»، بالإضافة إلى الإعلام المكتوب، سوف يلحظ أنه تم الانتقال من مرحلة السجال الدينى التى نبهنا من خطورتها مبكرا، إلى مرحلة يجتهد فيها كل طرف فى أن ينقض على الطرف الآخر بشتى الوسائل.. انقضاضًا يؤدى فى المجمل إلى نفى الآخر وإنكار وجوده.
إن ما يحدث هو انتصار لصيغة «نفى الآخر» سواء بالمقاطعة التى يعلنها المسلمون، أو بالاستغناء التى يعبر عنها الأقباط على حساب الحياة المشتركة، وتحطيم ما يسميه هابرماس ــ «بنيات التواصل» «الجسور» بين المختلفين، ما يعنى تدمير الوطن وتحوله إلى أوطان.
إن التجاذبات المستجدة على الإنترنت، تتطلب مواجهة حاسمة كما تتطلب إعادة الاعتبار إلى العلم والمعرفة لبحث أسباب ما وصلنا إليه والوصول إلى مصالحة تاريخية تجدد الشراكة الوطنية فى مصر كما أشرنا إلى ذلك فى مقال تفعيل الشراكة الوطنية أو استمرار النزاعات الدينية المنشور فى الشروق يوم 18 يناير.. شريطة أن يمتنع هؤلاء الذين يلعبون دور الوسطاء وهم لا يملكون لا العلم أو المعرفة أو الانجاز السياسى أو التاريخى كأبناء لأسر سياسية عريقة.. وأن الأمر أكبر من أن يترك للبيروقراطية الدينية والأمنية ولتكنوقراط زمن اقتصاد السوق الذين يزدرون العلم والحداثة ويميلون إلى المصالحات العرفية..
كنت أتمنى أن تكون المظاهرات المسيحية والإسلامية.. مظاهرات مصرية من أجل عدالة اجتماعية ومساواة وخدمات أفضل ومن أجل محاسبة الفاسدين.
وكنت أتمنى أن تكون دعوات المقاطعة موجهة لكل من يريد السوء بالوطن.. وأن يكون الاستغناء ليس عن الآخر وإنما عن القروض مثلا وعن كل ما يجعل مصر تابعة دعوة يتبناها الجميع.