أثار الحكم الخاص بإلزام الكنيسة بتزويج الحاصلين على أحكام بالطلاق، الكثير من ردود الأفعال.. وهو ما يمكن رصده من خلال ما انتشر خلال الأسابيع الماضية عبر الإعلام المكتوب والمرئى من تصريحات ومقالات وأحاديث من جهة، وعبر الإعلام الالكترونى من تفاعلات حية من جهة أخرى.. وقد كشفت ردود الأفعال هذه، أن هناك إشكالية مركبة تتجاوز موضوعيا، ما هو متصل بقضية الزواج فى المسيحية، إلى قضايا وموضوعات تتعلق بالدولة الحديثة القائمة على المواطنة.. المواطنة التى باتت حائرة بين الدينى والمدنى.. كيف؟
مقاربتان فى مواجهة
إن الفحص الأولى لردود الأفعال المثارة يشير إلى أن هناك مقاربتين أساسيتين تناولتا القضية، كلاهما صحيح فى حدود معطيات الحاضر.. المقاربة الأولى هى المقاربة الدينية المحضة والتى تتعلق بطبيعة الزواج فى المسيحية باعتباره زواجا دينيا له قدسية معينة لا يتحقق إلا بشروط معينة ذات طبيعة كنسية من حيث وجود كاهن قانونى يمارس طقوسا لها فعل روحى مباشر يحدث عند ممارسة هذه الطقوس ويجعل الزواج نافذا وشرعيا.. وبالتالى يترتب على ذلك أنه لا ينبغى أن تخضع الكنيسة لقوانين وأحكام تتعارض مع رؤيتها.
والمقاربة الثانية هى التى ترى أنه من حق الدولة تنظيم الأحوال الشخصية لمواطنيها بغض النظر عن الانتماء الدينى وبالتالى يجب أن تلتزم الكنيسة بالقوانين السارية وما يصدر عن أحكام قضائية فى هذا الخصوص.
وتحصن أنصار كل مقاربة بترسانة تفسيرية وتبريرية تضفى وجاهة على المقاربتين.. الأمر الذى أدى فى الواقع إلى مواجهة بين المقاربتين. مواجهة أوصلتنا إلى المأزق الذى نشهده اليوم..
والسؤال لماذا وصلنا إلى هذا المأزق؟
وكيف يمكن تجاوزه بما يدعم الدولة الحديثة وفى القلب منها المواطنة؟
الصيغة العثمانية وتداعياتها؛ بالعودة إلى التاريخ سوف نجد أن الدولة منذ الخمسينيات قد حلت المحاكم الشرعية والملية وارتضت أن تحكم كل جماعة بقوانينها الدينية الخاصة بالزواج.. وكان من المفترض أن يترتب على هذا ووفق ما ارتضته الدولة أن تتوافق الشرائع الخاصة لمن ينتمون لنفس الديانة مع القانون المعتمد من السلطة التشريعية.
بيد أن التوافق المزمع لم يحدث، لأن السلطة القضائية تعمل بقانون زواج للأقباط الأرثوذكس ترى الكنيسة أنه لا يتوافق مع رؤيتها وطرحت قانونا بديلا منذ ثلاثة عقود تحاول الدفع به ليحظى بالموافقة التشريعية حتى يأخذ به القضاة فى أحكامهم.. وهو الأمر المتعثر حتى الآن.
وواقع الحال أن هذا الموقف التاريخى قد حمل إشكالية مركبة.. من جهة، لأنه استعاد صيغة عثمانية ـ بوعى أو غير وعى تقبل بالصيغة الملية كأساس لتكوين الدولة.. حيث الدولة تتكون من مجموعة من الملل وتكون الرابطة الدينية هى الرباط الذى يربط بين أفراد كل ملة..
ومن ثم ضرورة الالتزام بتطبيق الشريعة التى تراها الملة صحيحة، وهو ما لم يتحقق، فكان الاختلاف بين لائحة 1938 التى تأخذ بها السلطة القضائية ويتعارض مع رؤية الكيان الدينى وقانونها البديل الذى لا يجد طريقة للخروج إلى النور.. (ليس صدفة أنه خلال هذه الفترة قد تم على المستوى السياسى التعاطى مع الأقباط كجماعة دينية من خلال العديد من المظاهر التى أوضحناها فى الكثير من الدراسات).
ومن جهة أخرى، افترضت الصيغة التى تم الأخذ بها أن كل المواطنين سوف يقبلون بالزواج الدينى ولم تضع أى احتمال بأن يكون هناك من يطالب بالزواج المدنى أى زواج خارج الإطار الدينى.
وهو ما يعنى احتمالية ما يمكن تسميته «الخيار المدنى» فى الأحوال الشخصية.. والذى لا يعنى مصادرة حق من يتمسك «بالخيار الدينى» للأحوال الشخصية.. حيث تتحقق المواطنة بتوفر الخيارين.. وليس بالتراوح أو الانحياز لأحد الخيارين.
والسؤال كيف يمكن تجاوز اللحظة الراهنة؟
الجنوح الملى والنزوع الأقلوى
ظنى أن دولة المواطنة وحدها هى التى تحتمل كلا من الخيارين: الدينى والمدنى دون تعارض أو تناقض.. انطلاقا من أن المواطنة تكفل حق المواطن الراغب فى هذا الخيار أو ذاك.. وفى غيبة دولة المواطنة سوف نجد:
■ جنوحا مليا يستعيد الحديث عن الملة وعن أهل الذمة أو«الصيغة العثمانية «كضمان للخيار الدينى الذى فيه حماية للذات فى مواجهة ما يتهددها.. (المفارقة أننا درسنا وضع الأقباط فى الفترة العثمانية فى كتابنا الحماية والعقاب: الغرب والمسألة الدينية فى الشرق الأوسط، وفى كتاب تاريخ المسيحية الشرقية ووجدنا أن مصر لم تعرف «نظام الملة» كما طبق فى الشام.. وكانت هناك ظروف مجتمعية حالت دون ذلك شرحها تفصيلا عزيز سوريال عطية فى كتابه المسيحية الشرقية، ومحمد عفيفى فى رسالته المهمة عن الأقباط فى العصر العثمانى، وأبوسيف فى كتابه الأقباط والقومية العربية..الخ).
■ أو نجد نزوعا للسلوك كأقلية دينية فى مواجهة الأغلبية الدينية.
المفارقة أنه وبسبب عوامل كثيرة منها التأخر فى حسم كثير من القضايا، والانقطاع عن الخبرة المصرية التى كانت آخذة فى التبلور مع مطلع القرن العشرين تحمل المصالحة بين الدينى والمدنى بدرجة أو أخرى، واستسهال استعادة الصيغة العثمانية لحل المشاكل الآنية، لجأ الجميع إلى الحلول السهلة، فى غيبة الإدراك والوعى بدلالة ما يرفعون من شعارات.. فبتنا نرى دعاة الجنوح الملى والنزوع الأقلوى يتمسحون بالمواطنة ويطالبون بالعلمانية التى تتناقض مع مواقفهم الدينية فى نفس الوقت.. فهم دينيون تارة ومدنيون تارة أخرى وهكذا تظل المواطنة حائرة لديهم بين الدينى والمدنى..
وأذكر فى هذا المقام أن أحد رجال الدين المسيحى ومعه بعض النشطاء وقت التعديلات الدستورية فى 2007 عندما طالبوا بإلغاء نص المادة الثانية الخاص بالشريعة فى الدستور، وإدراج نص حول علمانية الدولة وحاججهم البعض بأن هذا يعنى القبول بالزواج المدنى فتراجعوا فورا.. وفى نفس الوقت يعودون فى الأسابيع الماضية إلى التمسك بالشريعة الإسلامية لتبرير مرجعية الاحتكام إلى شرائعهم باعتبارهم أهل ذمة.. ألا يحتاج هذا الأمر إلى تفسير..
الخلاصة، على دولة المواطنة أن تبتكر صيغة تستجيب للتنوع بحيث يتم احترام إرادة المواطنين على اختلاف انتماءاتهم.. فمن يريد أن يتزوج بحسب الشرائع الدينية من المصريين المسلمين أو المسيحيين أو غيرهم، له ذلك وعلى نفس الدرجة من المساواة من يريد أن يتزوج وفق القواعد المدنية له ذلك.. وهو ما يستدعى من الدولة أن تنجز قانونا شاملا للأحوال الشخصية للمصريين من خلال حوار وطنى شامل.. فبهذا تتحقق الدولة الحديثة وفى القلب منها المواطنة..
فلا تعود حائرة.. ولا يعود التجاور هو حالة العلاقة بين الدينى والمدنى بل تتم المصالحة بينهما بما يضمن تحقق المواطنة دون الإخلال بحق من يريد أن يحتكم إلى الشرائع من جهة، ودون مصادرة حق من يرغب فى الاحتكام إلى غيرها من جهة أخرى.. هكذا نتسق مع أنفسنا ومع المواطنة التى نتحدث باسمها طول الوقت.