(أ)
أحرص دائما فى برنامج قراءاتى أن أقرأ كتابا قديما وآخر جديدا فى نفس الوقت.. قد يكون القديم قرأته من قبل ورأيت أن أستعيد ما فيه لسبب أو لآخر.. فى هذا السياق قرأت مؤخرا كتابا جديدا بعنوان «أزمة الهويات» لكلود دوبار (صدر فى العام 2000 وقامت بترجمته رندة بعث نهاية 2008) وكتابا للمفكر الراحل المثقف الكبير أمير اسكندر عنوانه:
«حوار مع اليسار الأوروبى المعاصر» (صدر فى سلسلة كتاب الهلال فى عام 1970)… ووجدت من ضمن موضوعات الكتابين الكثيرة، موضوعا يتعرضان فيه للوطن والمواطن فى الحالة الفرنسية، ومن أهم ما لفت نظرى فيما جاء فى الكتابين، بالرغم من البعد الزمنى بينهما واختلاف السياق، هو أن هناك علاقة جدلية وطردية بين تقدم ومكانة كل من الوطن والمواطن… وتبدو النصوص فى كل من الكتابين وكأنها تكمل وتفسر بعضها البعض.. وتقدم لنا دروسا لواقعنا… ومن خلال القراءة يمكن أن نخرج بأكثر من درس.
(ب)
الدرس الأول عن تقدم وتراجع الأوطان بما تضم من مواطنين… ففى كتاب منهما يذكر كيف عانت فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية أزمة كبيرة فى السياسة الوطنية والسبب هو «انهيار القوة المادية والمعنوية الفرنسية وإحساس غالبية السكان بضعف بلادهم وإدراكهم أن وطنهم لم يعد يلعب الدور الذى كان يلعبه من قبل»… وفى نفس اللحظة التى تراجعت فيها مكانة الوطن بسبب الضعف تراجعت مكانة المواطن واستقلاليته. فالمواطن بات يكتسب الشرعية والمكانة فى فترة الضعف من تبعيته إلى الجماعة الفرعية… حدث هذا ويا للمفارقة فى بلد الثورة والتى اخترعت ثلاثية «الحرية والإخاء والمساواة».. فالمواطن بفضل هذه الثورة (1789) أصبح يستمد مكانته فى وطنه من منطلق قيمته كفرد بعيدا عن ثروته أو انتسابه لعائلة ما أو منطقة بعينها أو… إلخ.
ولاستعادة المكانة للوطن / المواطن، كان لابد من وجود رؤية تعيدها.. كانت البداية أنه بالرغم من وجود الكثير من التحديات والأخطار التى تواجه وتهدد فرنسا إلا أن ذلك لم يمنعها من التقدم..فمن المعروف أن العامل القومى قد لعب دائما دورا مهما فى السياسة الفرنسية لاسيما وأن فرنسا تعتبر من أقدم الدول القائمة فى أوروبا ويتميز سكانها بدرجة عالية من التجانس والتلاحم.. ومن هنا كان استنهاض الهمة الوطنية والأخذ بأسباب التقدم فى إمكانية التصنيع وتوطين التكنولوجيا والمنافسة، وأن يكون لفرنسا دورها الدولى… لقد آمن ديجول آنذاك وبقوة ــ فى الأمة الفرنسية، فنالت ما تستحقه من مكانة خلال سنوات قليلة بعد الحرب العالمية الثانية… وهكذا عادت المكانة للوطن/ المواطن وتحقق التقدم.
(ج)
أما عن الدرس الثانى.. فإنه فى اللحظة التى شعر فيها المواطن الفرنسى بأن السلطة «تتشخصن» فى زعيمها ديجول، فباتت السلطة ديجول وديجول هو السلطة، مما يعنى غيابا للمؤسسات من جهة، والافتراض مقدما أن أصوات المواطنين لزاما عليها أن تذهب إلى الزعيم الكاريزما.. كان لابد من وقفة مع الواقع.
ففى هذه الفترة التى كانت تعود فيها فرنسا إلى نفسها تذكرت أن الثورة الفرنسية هى التى من رحمها ولد الفرد الحر المستقل.. فالهوية المواطنية ــ إن جاز التعبير ــ ليست جماعية أو كلية، بمعنى لا يوجد تصويت جماعى أو تصويت بالإنابة أو ما يمكن تسميته بتصويت القطيع… فأصوات الأفراد من حق أصحابها كل واحد على حدة، يضع صوته حسبما يرى هو أين الخير العام… شريطة ألا يصادر فرد حق كل فرد من الآخرين أن يحدد أين يضع صوته… وأن الخير العام يتشكل من مجموع رؤى الأفراد على اختلافهم.
على الجانب الآخر، ليس من حق أحد أن يتحدث باسم الأمة حتى لو كان ديجول (رمز المقاومة ضد النازية والذى استطاع أن يكون مستقلا عن السياسة الأمريكية ويحقق التقدم لفرنسا الخمسينيات والستينيات).. فكل ما فعل لم يشفع لديجول، فالأمة يتقاسم الحديث باسمها الجميع من دون تمييز، لا الزعيم أو من ينيبه ولا كتلة تظن أنها تملك الحق المطلق من دون الآخرين.
(د)
درس ثالث يشير إليه كتاب أزمة الهويات عن حاضر فرنسا التسعينيات.. هو أنه إذا كانت مؤسسات المشاركة التاريخية مثل الأحزاب غير قادرة على تجديد نفسها… وإذا كانت الدولة لم تعد هى الدولة فى زمن الأسواق… فكيف يستطيع أن يصمد المواطن وكيف يبقى الوطن قدر الإمكان مستقلا.. مساران لا ثالث لهما أمام المواطن إما الارتداد للهويات الفرعية: الاثنية الدينية، أو الارتباط بمجموعات الضغط الاقتصادية أو التمترس بالروابط المهنية ضيقة المصالح… أو التقدم فى كشف مفارقات الهوية الشخصية وعدم الارتهان للانتماءات الضيقة أو الفرعية حيث يسجن المرء نفسه فيها ظنا منه أن العالم هو قريته أو عشيرته أو طائفته،والسير بثقة نحو المواطنة الفعالة..
ففى الحالة الأولى / المسار الأول يمكن أن نبنى أوطانا فى الوطن الواحد قد يكون كل منها قوى على حدة ولكن الوطن الجامع ضعيف… أما فى الحالة الثانية / المسار الثانى فإن الحضور فى الوطن للأفراد الأحرار المستقلين يضمن تقدم الوطن.
إذن، متى تقدم الوطن تقدم المواطن،
ليس من حق أحد أن يحتكر السلطة والمواطنون أفراد أحرار مستقلون يتقاسمون الحديث باسم الأمة والتفكير والعمل من أجل خيرها العام،
وأخيرا الحركة التى تكون فى إطار الخاص الضيق لكل كتلة فئوية أو نوعية على حدة لا تعود بالفائدة على الوطن مثل حركة المواطنين التى تكون فى إطار العام الرحب، فعندئذ يتقدم الوطن…
هل تقدم هذه القراءة لخبرات الآخرين إجابة عن بعض من التساؤلات الحائرة.