في الحلقة الأولي، حاولنا أن نؤكد أن قضية العدالة – المساواة أكثر من أن تكون قضية أخلاقية أو دينية محضة، فهي ترتبط ارتباطا وثيقا: بنيويا وهيكليا، بحركية المجتمع وطبيعة الدولة بهياكلها ونمط الإنتاج السائد والتوجهات المعمول بها وعن من تُعبر،وأخيرا السياسات القائمة وهل قادرة علي تحقيق المساواة أم لا. وكانت ذروة هذه النقاشات والالتفات الحاسم لقضية العدالة – المساواة مع الثورة الفرنسية حيث تم تأسيس مبدأ “الحق في المساواة”، من خلال إعلان حقوق الإنسان والمواطن”.
لقد فتح هذا المبدأ آفاقا جديدة علي المستويات المدنية والقانونية والسياسية ولاحقا الاقتصادية والاجتماعية. وخاصة في القرن العشرين. كيف؟
(1) التطور الاجتماعي ـ الاقتصادي للمساواة
بالنسبة للمساواة الاقتصادية والاجتماعية،فلقد انطلقت من نص تضمنته الوثيقة الفرنسية تؤكد “العدالة ذات السرعة المزدوجة”، في تأمين توزيع الأعباء والمزايا الاجتماعية. بيد أن هذا المبدأ لم يمنع من اكتشاف أن كل الأفراد لا يستفيدون من الفرص نفسها حسب مراكزهم في السلم الاجتماعي. وأن المساواة التي ثارت من أجلها الناس في الثورة الفرنسية، نعم استطاعت قوي الثورة أن تجعلها واقعا بعض الشيء، إلا أن مسار الأحداث اللاحق بين أن تحقيق المساواة يرتبط بموازين القوي في المجتمع.
– في هذا المقام نشير إلي جملة أمور منها:
1ـ المساواة ترتبط ارتباطا وثيقا بطبيعة الدولة ومؤسساتها المتعددة وبتركيبة المجتمع بتكويناته المختلفة.
2ـ المساواة ليست نصوصا تدرج في دساتير وقوانين ووثائق وإنما قوي قادرة علي جعلها موضع التنفيذ.
3ـ أن المساواة القانونية لا تحول دون وجود اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية، والثقافية.
4ـ التأكيد علي أن المساواة ومدي تحققها النسبي هو نتاج حركة – نضال الناس علي أرض الواقع في اكتساب هذه المساواة من حيث المبدأ، ومن حيث الدرجة، ومن حيث قدرتها علي تحقيق تأثير ايجابي في حياة الناس،ومن هنا جاء اعتبارها أحد التجليات المهمة للمواطنة التي هي تعبير عن حركة الناس (في ضوء دراستنا المبكرة لقضية المواطنة وضعنا تعريفا لها نصه ما يلي: المواطنة هي تعبير عن “حركة” الإنسان اليومية.مشاركا ومناضلا. من أجل. حقوقه بأبعادها “المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية”. علي قاعدة المساواة مع الآخرين من دون تمييز لأي سبب (اللون – الجنس – العرق – الدين – المذهب – المكانة – الثروة – الجيل – الجهة). واندماج هذا المواطن في “العملية الإنتاجية” ومن ثم “المجتمعية”. بما يتيح له تقاسم الموارد في إطار الوطن الواحد الذي يعيش فيه مع الآخرين. راجع كتابنا “المواطنة والتغيير”).
– ويمكن القول ان الأزمة الاقتصادية التي جرت في عام 1929 والتي عرفت بأزمة الكساد الكبير قد فتحت باب النقاش حول قضية المساواة علي مصراعيه من خلال سؤال محوري هو:
“ما هي أسباب اللامساواة؟.
ويلخص الجدول التالي عناوين كل مرحلة تاريخية وموقفها من المساواة. أزمة 1929: البحث عن المساواة من 1945 إلي 1979 المساواة للجميع
من 1979إلي أزمة 2009:
الليبرالية الجديدة والمساواة الغائبة ما بعد 2009:
أي مساواة يريدها العالم – نحن المساواة من منظور المواطنة في 100 سنة إن ما أدت إليه الأزمة الاقتصادية 2009 يكاد يقترب مما أدت إليه الأزمة الاقتصادية العالمية المعروفة باسم الكساد الكبير في سنة 1929من القرن الماضي أي منذ اكثر من 80 سنة بالضبط. فالسؤال المطروح الآن هو نفسه السؤال الذي ُطرح في الماضي.
(2) جدل المواطنة وفي القلب منها المساواة بين أزمتين اقتصاديتين عالميتين
(ب ـ 1): الأزمة الاقتصادية في 1929 وانطلاق الدعوة إلي “البحث عن المساواة”.
– يمكن تلخيص أزمة 1929، بأن العالم الغربي قد أصابته حالة من الركود الشديدة أدت إلي إفلاس آلاف البنوك وانخفاض حجم الأجور المدفوعة إلي 60%، بالإضافة إلي بطالة وصلت إلي 12 مليونا من العاطلين.
فعلي مدي 40 سنة،أي في الفترة من 1909 إلي 1949 والتي شهدت حربين عالميتين زاد تركز وتمركز رأس المال وتنامت الاحتكارات الصناعية بشكل غير مسبوق،وحظي أصحاب الثروات بامتيازات عديدة. بيد أنه وفي نفس الوقت،كانت الأزمات الاقتصادية متلاحقة ومؤلمة، ويمكن القول ان العنوان الأبرز لهذه المرحلة كان “اللامساواة” بين البشر. فلقد كان التفاوت الحاد بين القلة الثروية والأغلبية الفقيرة هي الحقيقة الكبري التي خرج بها النظام الاقتصادي العالمي من أزمته الأسوأ في القرن العشرين، والمعروفة بأزمة الكساد الكبير التي حدثت في سنة 1929 واجتهد الكثير من السياسيين والاقتصاديين لوضع حلول لمواجهة اللامساواة فكانت سياسة الصفقة الجديدة في أمريكا ـ التي تبناها الرئيس الأمريكي روزفلت وفق رؤي اقتصادية للاقتصادي البارز كينز، وكانت دولة الرفاه في أوروبا والتي تراوحت بين نماذج ثلاثة: الديمقراطي الاجتماعي، والمحافظ الكوربوراتي، والليبرالي بالإضافة إلي نظام رابع يتعلق بدول العالم الثالث أطلقت عليه “الإعاني”.
وكانت الجهود في مجملها تصب في محاولة تحقيق المساواة ـ قدر الإمكان ـ من خلال توفير مجموعة من التشريعات والنظم التأمينية والرعائية ضد المرض والبطالة،كذلك تقديم الخدمات اللازمة للجميع في مجالي التعليم والصحة بالإضافة إلي الخدمات العامة من طرق ومساكن. الخ، ومع حدة الأزمة الاقتصادية الأسوأ، تأكد أن العطايا الخيرية لا يمكن أن تحقق المساواة بالمعني المؤسسي. أي أن الأمر ليس مجرد محاولة لترضية شريحة أو فئة من الناس، وإنما ـ بالأكثر ـ تأسيس نظام عادل بين المواطنين بغض النظر عن المنزلة والثروة. كذلك لابد من القبول بنوع من التسوية التي تسمح بقدر من المساواة بين المواطنين.
لقد دفعت أزمة 1929 إلي فتح آفاق جديدة حول المساواة كان هدفها المواطن، كان من نتائجها أن طورت الدول من سياساتها الاجتماعية وآلياتها.كما تطورت النظرة للمواطنة وخرج علينا توماس مارشال (أول من نظر للمواطنة من خلال دراسته المهمة الرائدة “المواطنة والطبقة الاجتماعية 1949) برؤية مهمة حول المواطنة حكمت السياسات الاجتماعية تاريخيا ولفترة طويلة من جهة، كما تعد المادة الأساسية التي تتم استعادتها فيما يدور من نقاشات حالية حول المواطنة وفي القلب منها المساواة بعد أن أخَلت الدولة النيوليبرالية بالمواطنية عندما سادت في العالم منذ 1979.
(ب ـ 2) مارشال و”المساواة للجميع”
في هذا السياق، ثار ما يمكن أن نطلق عليه “جدل المواطنة”، للمرة الأولي بشكل واضح وصريح في القرن العشرين، حول حقوق المواطنين ليس فقط مدنيا وسياسيا وإنما ايضا اقتصاديا واجتماعيا. فللمرة الأولي ظهر جليا أن عملية جع ل منظومة الحقوق التي من شأنها أن تؤمن المساواة وبالأخير بلوغ المواطنة، هي عملية معقدة لأنها ترتبط بطبيعة التطور الاقتصادي، ونمط الإنتاج السائد،ونوعية التناقضات الداخلية الطبقية والاجتماعية، وشكل الحكم السائد.
ويقول مارشال ان القرن الثامن عشر هو الذي شهد تبلور العنصر المدني (والذي عني الناس فيه بأن يحصلوا علي الحريات المدنية،. أما القرن التاسع عشر فلقد عرف تكون العنصر السياسي والذي استطاع فيه الناس أن ينالوا الحق في المشاركة. وأخيرا وعلي مدي النصف الأول من القرن العشرين أدرك المواطنون العنصر الاجتماعي والذي يعني تمتع المواطن بالرفاهية الاقتصادية والأمان والضمان الاجتماعي، وأن يكون له نصيب في النشاط الاقتصادي وبحياة جديرة بإنسان متحضر. ويتحقق العنصر الاجتماعي من خلال نظام التعليم، ونظام الرعاية الصحية، والخدمات الاجتماعية.
ولهذه المساهمة أهميتها في إعلاء مفهوم “تحقيق المساواة للجميع”، وقد كان في ضوء ما سبق، اختارت دول “أوروبا الغربية” الخارجة من الحرب العالمية الثانية الأخذ بما عرف “بدولة الرفاهة” Welfare State، حيث المواطن هو موضوع وهدف كل تنمية وذلك كما يلي:
بتأمين الضمانات الاجتماعية والخدمات العامة، وارتفاع معدلات النمو والتوظف والاستقرار النقدي النسبي، وزيادة مستوي المعيشة، وترسيخ حالة ديمقراطية، يكون فيها للفرد دور حقيقي، وليس ليبرالية جديدة تحل السوق فيها محل كل شيء.
وفي هذا السياق، عرفت أوروبا ثلاثة نماذج من دولة الرفاهة (من منظور أدبيات المواطنة) التي تحاول تأمين المساواة وفق ظروفها وسياقها الاجتماعي وذلك كما يلي:
أولا:النموذج الديمقراطي الاجتماعي: وهو النموذج الشائع في الدول الاسكندنافية (السويد والدنمارك والنرويج) حيث تقوم فيه الدولة بتوفير الخدمات لمواطنيها من دون تمييز. ومن منطق “لا سلعي” أي أن هذه الخدمات ليست سلعا تباع للمواطنين وإنما حقوق.
ثانيا: النموذج المحافظ الكوربوراتي:
كما في فرنسا وألمانيا حيث الخدمات غير مرهونة بقيمتها في السوق، لكنها ليست بالضرورة شاملة لجميع الأفراد. ويرتبط مقدار ونوعية المعونة التي ينتفع بها المواطنون المستحقون بحسب وضعهم الاجتماعي وهذا النوع من الرفاهة لا يستهدف إلغاء جوانب اللامساواة في المجتمع بل الحفاظ علي الاستقرار الاجتماعي والتماسك العائلي والولاء للدولة.
ثالثا: النموذج الليبرالي:
حيث تغلب فيه علي خدمات الرفاهة طابعها التجاري في السوق،كما في أمريكا،(ويشار إلي أن بريطانيا قد تراوحت بين الأخذ بالنموذج الديمقراطي الاجتماعي في الستينيات من القرن الماضي، ثم تحولت إلي النموذج النيوليبرالي مع تولي تاتشر الحكم).
رابعا: النموذج الإعاني.
وترتب علي هذه الأفكار أن تم وضع سياسات تنموية واجتماعية متنوعة لتحقيق المواطنة وفي القلب منها المساواة، سارت علي هديها المجتمعات المتقدمة علي مدي عقود. بل وباتت التزاما دوليا ونشير هنا إلي العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية قد اعتمد وعرض للتوقيع والتصديق والانضمام بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16ديسمبر 1966 وبدء تنفيذه في 3 يناير 1976.
الحلقة الثالثة: سياسات الليبرالية الجديدة وتغييب المساواة.