عولمة أم حرب طبقية عالمية ...1

هناك جدل عميق دائر,الآن,واضح أننا منقطعون عنه ـ إلا فيما ندر ـ,حول تقييم ما اصطلح علي تسميته بالعولمة.. بداية من ملاءمة المصطلح لمضمون ما كانت تعبر عنه العولمة,ومرورا بطبيعة عملية العولمة وهل هي مجرد منظومة ثقافية تتعلق بأمركة العالم ـ لدي البعض ـ أو غربنة العالم ـ لدي البعض الآخر ـ ساهمت ثورة الاتصالات في تجسيدها بهذا القدر المهول, أم أنها عملية أكثر تعقيدا من ذلك,وأخيرا ما هي النتائج التي ترتبت علي عملية العولمة بعد عقود من سيطرة ظاهرة العولمة علي مقدرات البشرية…


وعليه تعددت الدراسات التي تقارب الظاهرة و تحاول أن تعيد تسمية الأسماء بمسمياتها..فما حدث في العالم علي مدي عقود ـ بحسب هذه الدراسات ـ تحت مسمي العولمة كان في جوهره ‘حربا طبقية عالمية’… شاركت فيها الشركات العابرة للقوميات من جهة والمؤسسات الدولية الاقتصادية من خلال ما بات يعرف ‘بالمعونة القاتلة’و’بالوصفات الرديئة’من جهة أخري…

و في هذا السياق, وفي إطار متابعتنا لأهم ‘الأفكار’ التي يتحاور حولها العالم؛ تابعنا في الأهرام الاقتصادي ـ علي مدي أربع حلقات: أزمة ما أسميناه ‘السوبر رأسمالية ‘؛ ثم علي مدي ست حلقات: ‘قصة الليبرالية الجديدة:من البداية إلي انتهاء الصلاحية ‘, وعلي مدي حلقتين: تعرضنا لدراسة فوكوياما الذي أطلقنا عليه كاتب النهايات ـ التي نشرها مطلع هذا العام ‘حول نهاية النيوليبرالية’,ـ …

ونواصل في هذا العدد ـ ولأكثر من حلقة ـ تقييم المرحلة التي عرفت تاريخيا بالعولمة ,تمهيدا للحديث عن مستقبل الليبرالية,في حلقات مستقلة ـ لاحقا…
في دراستنا’عولمة أم حرب طبقية عالمية’,نحاول إلقاء الضوء علي أهم الأفكار التي تربت علي مراجعات معتبرة حول العولمة … ونبدأ في هذه الحلقة بمقدمة عن طبيعة عملية العولمة.. ومنها ننتقل إلي إلقاء الضوء علي أكثر من دراسة هامة حديثة تشير إلي أن ما جري في العالم علي مدي عقود هو حرب طبقية عالمية, كذلك نقترب من الآثار المدمرة التي طالت بنية مجتمعات العالم الثالث من جراء المعونات…

(أ)
منذ منتصف التسعينيات,أُعتبرت ‘العولمة’,عنوانا للعصر..وتراوحت ردود أفعالنا بين التأييد والمعارضة للعولمة..وكانت أغلب المواقف تجاه العولمة,سواء المؤيدة أو المعارضة تقف علي الأرضية الثقافية ـ إلا فيما ندر ـ حيث رأي المؤيدون أن العولمة لها من الإيجابيات ما يجب أية سلبيات من حيث التواصل الكوني بين الشعوب,وتداول جديد التكنولوجيا ما يمكن شعوبنا من التقدم…علي النقيض رأي الآخرون من المعارضين أن العولمة كلها شر لأنها تحمل من القيم ما يناقض تراثنا وثقافتنا وقيمنا وهو ما سوف يعرضنا لتحديات كثيرة…
قد تكون هناك وجاهة في وجهة نظر كل فريق,بيد أن قلة هي التي أدركت حقيقة جوهر العولمة وأن آثار العولمة ما هي إلا نتاج لعملية أكثر تعقيدا,اقتصادية في المقام الأول…وأن الآثار الثقافية قد غطت علي المضمون الاقتصادي لعملية العولمة وما ترتب عليها من نتائج وبخاصة علي مجتمعاتنا…فمن الدراسات الهامة التي صدرت مبكرا حول العولمة وكشفت عن حقيقتها, كتاب مالكولم ووترز’Globalization”(1995وأعاد طبع الكتاب طبعة منقحة صدرت في 2000).. حيث عرفها بما يلي:
‘العملية الاجتماعية التي تتراجع أمامها عوائق الجغرافيا أو أية ترتيبات سياسية أو اجتماعية وبحيث يدرك معها الناس أنفسهم أنهم يتراجعون أمام هذه العملية, وذلك بفعل ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات والمعاملات المالية التي تديرها الشركات عابرة القوميات والمتعددة الجنسيات والتي باتت أكثر قوة من الدول والمؤسسات السياسية الدولية,وفي ظل ذلك, تطورت ثقافة عولمية يتفاعل معها الناس من كل صوب واتجاه, بغض النظر عن انتماءاتهم القومية, الأمر الذي جعلهم يضعون اختياراتهم الفردية قبل هوياتهم , ولم لا وقد يصبحون أغنياء في السوق العالمية, حيث ثقافة السوق تشكل منظومة قيمهم, بعيداً عن مهام عضويتهم في الجماعة الوطنية التي ينتمون إليها’. ويأتي أهمية تعريف ووترز,في أنه حرر العولمة من اختزالها في البعد الثقافي فقط,وأنها عملية اقتصادية مركبة تتجاوز المكان و تجعل من كوكب الأرض سوقا يتم فيها تسويق وترويج منتجات دول المركز,حيث يندفع الأفراد في دول الأطراف لاستهلاك هذه المنتجات الآتية من المركز..والمفارقة أننا سنجد من ضمن المستهلكين في دول الأطراف من يقاومون ويعارضون العولمة الثقافية انطلاقا من أن استخدام واستهلاك السلع شيء والأنماط الثقافية الوافدة شيء آخر..غير مدركين أن العملية الاقتصادية التي تشكل جوهر العولمة تنتج القيم والأنماط الثقافية إلي جانب المنتج الاقتصادي. وهو الأمر الذي تنبه له مبكرا Jessop في دراسته المعتبرة: ”Post – Fordism & the State(1994),حيث أولا وصف العملية الاقتصادية العابرة للحدود والمتعددة الجنسيات بأنها مرحلة ‘ما بعد الفوردية'(نسبة لفورد صاحب مصانع السيارات الشهير الذي تعتبر تجربته الصناعية نموذجا للإنتاج الصناعي الكلاسيكي)..وثانيا ربط بين طبيعة العملية الاقتصادية من حيث:نوع العمالة, وطبيعة التراكم الاقتصادي, والتنظيم الاقتصادي, وبين نمط المجتمع الذي يتم تشكله..

(ب)
في هذا السياق لابد من الإشارة إلي الالتفات المبكر من قبل العالم الجليل الراحل الدكتور إسماعيل صبري عبد الله لتحليل ظاهرة العولمة وتجاوز النظرة الاختزالية لها والتي تراها من المنظور الثقافي فقط ,كذلك عدم الوقوع في فخ النظرة التبسيطية للظواهر..وعليه قدم إسماعيل صبري محاولة تحليلية بدأها بضبط المصطلح ـ حيث مال لاستخدام تعبير الكوكبة ـ,ومعرفة أسبابها ومضمونها,والمحرك الأساسي لعملية العولمة..وبعيدا عن إغراق القارئ في الكثير من التفاصيل,فإن أهم ما لفت النظر إليه , هو أن هناك علاقة عكسية بين تنامي ظاهرة العولمة (الكوكبة) و تنامي الفجوة بين الأغنياء والفقراء في العالم بشكل عام,وفي داخل دول الجنوب بشكل خاص.

وبداية يعرف الدكتور إسماعيل الكوكبة بأنها ‘التداخل الواضح لأمور الاقتصاد والاجتماع والسياسة دون اعتداد يذكر بالدول ذات السيادة أو انتماء إلي وطن محدد أو لدولة معينة ودون حاجة إلي إجراءات حكومية’…وقد تم هذا التداخل نتيجة أن الرأسمالية العالمية قد غيرت ‘بنيتها من احتكارات قومية تنتمي إلي دولة محددة ومتخصصة في إنتاج معين ‘, إلي احتكارات كونية من خلال الشركات المتعدية الجنسيات… وبمراجعة نصيب العالم الثالث من مجموع الناتج المحلي الإجمالي للعالم وجد أنه في تراجع منتظم (من 15 % سنة 1988 إلي 4, 13% سنة 1995), وهو ما يعني فشل دعاوي التنمية ودعم دول الجنوب لصالح الأغنياء مما نتج عن ذلك ظاهرة الاستقطاب الحاد بين الفقر والثراء…فأكثر من ثلثي تدفقات رأس المال من دولة إلي أخري تركز خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين فيما بين الدول السبع الصناعية الكبيرة,وتعني هذه التدفقات هو أن الأولوية كانت لما يعرف بالاستثمار المتبادل بين هذه الدول…ونتج عن ذلك اتساع الفجوة بين هذه الدول ودول العالم الثالث…

وفي كلمات قليلة يمكن القول أنه تبين أن العولمة هي عملية ‘تركز الإنتاج والثروة والنفوذ في أيدي عدد محدود من الشركات المتعدية الجنسية’…كان من نتيجتها توسيع الهوة بين الأغنياء والفقراء ليس في دول الأطراف فقط وإنما في دول المركز أيضا وهو ما ظهرت إرهاصاتها عبر العديد من الأزمات المالية التي تعرض لها العالم منذ منتصف التسعينيات وتأكدت بحسم من خلال الأزمة المالية العالمية المالية التي ضربت العالم في 2009…
فالتوسع المالي الضخم كان لصالح أقلية احتكارية في دول المركز وهو ما يعني أن الدخول كانت تحصدها الأقلية.. ولم تفلح محاولات المؤسسات الدولية في أن تسد الفجوة التي أخذت في الاتساع بين دول الشمال والجنوب..فلقد استمرت ظاهرة الفقر وتزايد أعداد الفقراء,الأمر الذي دفع البنك الدولي بأن يتخلي عن واحد من أهم ما بشرت به الليبرالية الجديدة ألا وهو ما عرف ‘بتأثير التساقط’ trickling down effect ,ويعني:
* ‘أن غني الأغنياء سيصفي تلقائيا وتدريجيا ظاهرة الفقر لأن الغني المتزايد يعني تزايد الاستثمار وخلق فرص عمل باستمرار..وعليه تنحصر البطالة من جهة, أما غير القادرين علي العمل من المرضي والكسالي والمعوقين فيمكن أن يواجه بالأنشطة الخيرية Charity, أي ما يتبرع به الأغنياء..
بيد أن الأرقام تقول أن هذه السياسة لم تسفر عن تقدم يذكر,وخاصة في ظل العولمة..

(ج)
إذن,العولمة كعملية اقتصادية كانت تعبيرا عن أيديولوجية السوق , وكانت المظلة التي تحركت من تحتها الشركات المتعددة / المتعدية الجنسيات التي كانت تنتسب أو ترتبط بأقلية ثروية تتركز في أيديها رؤوس الأموال…وتشير دراسة Diane Perronsـ رفيعة المستوي ـ (موثقة بالإحصائيات) المعنونة:’العولمة والتغيير الاجتماعي:الناس والأماكن في عالم منقسم'(400صفحة ـ إصدار 2004),
Globalization And Social Chang
People And Places In A Divided World
إلي حجم الانقسام الاجتماعي الحاد الذي ترتب علي الأخذ بالعولمة,وتزايد عدم المساواة الاجتماعية…وعلي الرغم من التقدم في تقنيات المعلومات والاتصال إلا أن قدرة هذه التقنيات لتنمية بنية مجتمعات العالم علي اختلافها (تناولت الدراسة علي مستوي الدول الهند والفلبين وتايلاند وألمانيا والمكسيك والنمسا وأستراليا وجنوب إفريقيا وجامبيا وأمريكا كذلك تناولت الدراسة مدي تأثير العولمة علي المستوي القاري,بالإضافة إلي تخصيص فصل لدراسة التنمية اللامتكافئة في المملكة المتحدة), قد أعيقت بسبب سيادة النموذج النيوليبرالي في التنمية..وهو ما أدي إلي تكون تقسيم جديد للعمل وسع بين البشر بعضهم البعض,قلت معه المناطق الصناعية, ووسعت الفجوة بين المناطق ,الأمر الذي أثر علي طبيعة هيكل الأسرة,وعلاقاتها ..الخ..كما تجلي الاستقطاب الحاد بين هؤلاء الذين يرتبطون بالشركات العملاقة والذين يتقاضون أجورا عالية ـ وهم قلة ـ وبين العمالة المحلية التقليدية ما أدي إلي ما يعرف بالتنمية اللامتكافئة بين دول المركز ودول الأطراف..وبين القلة والأكثرية في داخل الدولة الواحدة…وبالأخير تأثير كل ذلك علي إعاقة التغير الاجتماعي..

قد يكون للعولمة بعض الإيجابيات علي المستوي الثقافي, إلا أن هناك أفكارا هامة مبكرة قد دقت أجراس الخطر لما سوف تأتي به العولمة وبخاصة علي المستويين: الاقتصادي,والتأثيرات السلبية علي البني الاجتماعية..
لذا انطلقت أفكارـ معتبرة ـ تدعو إلي ضرورة تسمية الأسماء بمسمياتها, فالعولمة ما هي إلا:
‘حرب طبقية كونية’ بامتياز..
وإلي أفكار الحلقة الثانية…

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern