فى خضم الأحداث المتلاحقة التى يشهدها الواقع المصرى ما بين وقائع العنف الدينى الشعبى / القاعدى، والمحاكمات السياسية، والمناورات السياسية، والضغوط الإقليمية والدولية على مصر.يبدو لى أن هناك حاجة ماسة إلى. فلم نزل تحت تأثير الموجة الأولى للحراك الشبابى الشعبى الثورى وتوابعه الذى خبرناه فى أثناء المرحلة الانتقالية. فالقطعى أن الموجة الأولى من الحراك قد أحدثت تحولا جذريا فى مصر مس البنية السياسية فى الصميم من حيث: الحركة القاعدية للمواطنين والتى نرى تجلياتها فى كل مكان وبأكثر من شكل: عصيان، احتجاج،
الإصرار على الحصول على الحقوق، عدم السكوت على الظلم،…إلخ. ومن حيث سقوط القداسة عن السلطة وتحديدا السلطة السياسية. فلم يعد يجدى ممارسة الشمولية السياسية، وأظن أنه جار مقاومة الشمولية الدينية. ولكن يقينا هذا لا يكفى… لماذا؟
لأن القضية، فى حقيقتها، لم تكن فى السلطة الاستبدادية فقط ـ مهما كانت وطنية ـ وإنما فى «الظلم الاجتماعى»، بمعناه الواسع. وفى السياسات الاقتصادية التى أوصلتنا إلى مجتمع الخمس (20 % يحظون بـ 80% من عائد الاقتصاد الوطنى، والعكس). صحيح كان هناك انتعاش مالى ونسبة نمو تقترب من 8% إلا أنها فى الواقع كانت لا توزع بعدل على الجسم الاجتماعى كله (راجع مقالنا «استثمار وإفقار» فى «المصرى اليوم» فى مارس 2008)، وعليه فإن تصور أن ما جرى فى مصر من توسيع دائرة الحضور السياسى لمن كانوا مستبعدين، وأن هناك مساحة من الانفراج السياسى والمدنى قد وفرتها 25 يناير،…إلخ، كاف وعليه يتم اتخاذ قرار «إدارى» بوقف عملية التغيير لضخ الاستثمارات وتحقيق الاستقرار.. أظنه تصور غير صحيح ولن يكفى وحده لتحقيق التقدم…
واقع الحال، فإن حراك 25 يناير قد وضع نموذجا لما ينبغى أن تكون عليه مصر من خلال المطالب التى رفعت. فالمطالب على بساطتها قد وضعت معايير لن يرضى المصريون أن يعيشوا دونها مهما طال الزمن. فلم يعد هناك مجال للتفاوض حول الحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية. كما أعاد الاعتبار إلى المسألة الاقتصادية / الاجتماعية أو الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمصريين وأهمية المساواة والعدالة بينهم. وكشف عن مصر أخرى مغايرة غير مصر «المجتمعات المغلقة»، والشواطئ المتميزة،…إلخ. هناك مصر التى لم تصلها خدمات أو مرافق بعد، هذا غير تجديد ما قدم، ومصر التى لم يزل اقتصادها بسيطا فى طبيعته (ريعى/ تجارى)، ومصر التى يعانى ملايين من مواطنيها أمراضا مزمنة،…إلخ. وإن التقدم يحتاج إلى ما هو أكثر من «تقاسم مصر» مقابل ضخ مالى من هنا أو هناك… وإلى أكثر من تزمت ثقافى باسم الدين والهوية… أو بإعادة إنتاج خطابات وتحالفات أو خلق إعاقات تحول النظر عن طبيعة الصراع وعن الخصوم الحقيقيين الذين من مصلحتهم بقاء الأمر الواقع على ما هو عليه أو وصل ما انقطع بتسويق أن الماضى كان أفضل…
لمصلحة هذا الوطن لابد من العمل على أخذ مطالب الحراك الثورى مأخذ الجد والعمل فى إطار من الشراكة الوطنية على تحقيقها… أو انتظار الموجة الثانية التى أظنها ستكون خشنة / «عنيفة»… ولعل كل تجليات العنف التى نشهدها: دينية ومذهبية وثقافية وسياسية واجتماعية… تلوح بذلك… وليس مفارقة أن التغافل عن مواجهة المسألة الاجتماعية / الاقتصادية يواكبه اللجوء إلى استصدار تشريعات مقيدة للحريات بدلا من تشريعات تصب فى اتجاه نظم تأمينية أفضل ونظام ضرائبى عادل…إلخ.