(1)
منذ سنة 31 ق.م.، تاريخ تبعية مصر إلى الدولة الرومانية وحكم أغسطس قيصر، وحتى محمد نجيب 1952م، حكم مصر «أشكال وألوان» من الحكام الوافدين. من خلال هذا التاريخ الممتد، يمكن القول إن المصريين قد وضعوا معياراً مهماً لقياس فاعلية الحكم وجديته، وهو: هل يصب لصالح المصريين أم لغيرهم؟ لذا ساند المصريون أحمد بن طولون عندما حاول أن يؤسس دولة مستقلة عن السلطة المركزية (868 ـ 905م) العباسية. ويرى مؤرخو الدولة الطولونية أنها تمثل محاولة الانتقال من عصر التبعية إلى عصر الاستقلال. وواصل المصريون مساندة الإخشيديين (935 ـ 969م) لاستكمال الاستقلال عن العباسيين. وفى المقابل كان المصريون يعرضون عن التعاون مع الحاكم الذى يعطى الاهتمام لسلطة مركزية خارج البلاد ويثورون ضده وضد من أرسله.
(2)
لأن الحاكم الوافد الذى كان يعطى ظهره لمصر ويولى وجهه لخارجها كان يترجم ذلك عملياً بشر كبير هو تعظيم استغلال الأرض ونقل خيراتها إلى خارجها وتوظيف مصر وثرواتها فى خدمة مشروع يتم صنعه خارجها ولا يخصها. وتفنن الحكام الوافدون من هذا النوع «الخارجى التطلع»، فى ابتكار الوسائل المتنوعة لاستغلال موارد البلاد إلى أقصى حد ممكن. وفى سبيل ذلك كانوا يمارسون كل صنوف العذاب والتضييق وممارسة السلطة أسوأ ممارسة. جرى هذا من قبل الرومان (الوثنيين والمسيحيين) والبيزنطيين. ثم من قبل الحكام المسلمين الذين وفدوا على مصر، بداية من دخول الإسلام إلى مصر وحتى الدولة الحديثة فى 1805(مع بعض الاستثناءات كما أشرنا فى الحالتين الطولونية والإخشيدية، ويمكن أن نشير هنا بالطبع إلى محمد على).
(3)
فى ضوء الخبرة التاريخية، اكتسب المصريون خبرة إدراك مَن مِن الحكام يعمل من أجل مصر ومَن منهم يعمل ضدها. لقد حرص الحكام الوافدون على ألا يختلطوا بالمصريين وأن يسلكوا سلوك «الإثنية الأجنبية»، فكانوا يهتمون بعدم اندماج أى من عناصر المؤسسة الحاكمة مع جماهير المحكومين. وبحسب أحد المؤرخين «لم يمتزجوا بالسكان الأصليين، بل عاشوا مترفعين فى معزل عنهم.. يغالون فى ابتزاز الأموال من الأهلين (المواطنين المحليين/ السكان الأصليين)». وكان الشعب المصرى حريصا على الابتعاد عن حيل وصراعات الحكام الوافدين. ولكنهم كانوا يثورون عندما يتجاوز هؤلاء الحكام المدى، لذا كان المصريون فى حالة دائمة من الثورة وخاصة فى العصر القبطى (السبعة قرون الميلادية الأولى) والفترتين المملوكية 1250 ـ 1517 والعثمانية من 1517إلى بداية الدولة الحديثة مع محمد على 1805.
وعلى العكس فإن الحكام الذين فهموا قيمة مصر وقدّرها حاولوا التحرر من التبعية للخارج وتحقيق استقلال مصر. كما كانوا يحاولون أن يصنعوا لهم جذوراً فيها والتخلص من ثقافة الحاكم الوافد.
(4)
«ملكة الحكم»، (بتعبير كانط) فهمها المصريون. وبقيت معهم إلى يومنا هذا يقيسون بها الحكم مع حكامنا الوطنيين. إلى أين ينظر الحاكم؟ إلى الداخل أم إلى الخارج؟ إلى كل المصريين أم إلى سلطة خارج البلاد أو جماعة مغلقة؟!