«الرضا العام والقبول» هما أساس شرعية سلطة بعينها بأن تمارس الحكم فى لحظة تاريخية معينة. وهذه الشرعية تنطلق من قناعة المواطنين بأحقية هذه السلطة فى أن تمارس الحكم وفق ضوابط عقلانية وموضوعية يتم الاتفاق عليها من قبل كل ألوان الطيف الوطنى. وما يجعل كلاً من الرضا والقبول نافذين هما ثقة الأغلبية بأن الحكم قادر على الإنجاز.
واطمئنان الأقلية بأن السلطة سوف تكون عادلة قدر الإمكان عند تطبيق سياساتها. خاصة أن التداول هو أحد معايير الحكم الرشيد. وأن رؤية الأغلبية مهما طال حكمها سوف يأتى عليها اليوم الذى تسلم فيه السلطة للأقلية التى سوف تصبح أغلبية، أخذاً فى الاعتبار أن مفهومى الأغلبية والأقلية فى المجتمعات الديمقراطية يقومان على أسس سياسية، لأن غير ذلك سوف يجعل الشرعية محل شك.. كيف؟
من خلال الخبرة التاريخية، أدركت الشعوب أن درجة الشرعية تقل ويمكن أن تنعدم كلما انحرفت السلطة عن هذا التوافق، أو أخلت بتعهداتها التى التزمت بأن تفى بها، أو عادت لتحكم لحساب جماعتها وحدها دون الآخرين، أى باتت السلطة تحكم لصالح لون واحد من هذه الألوان، أو تم الاكتفاء بالاستقواء بفئة فى الحكم انطلاقا من الانتماء للمعتقد الدينى أو القومى أو الولاء لحزب شمولى كعوامل حاكمة للانحياز لهذه الفئة، على حساب الجماعة الوطنية التى تقوم على قاعدة المواطنة وعدم التمييز بين المواطنين.
وقد اتفق الشرق والغرب على ما سبق. فكل من ابن خلدون وماكس فيبر، ومن خلال سياق كل منهما، تشاركا فى أن «النظام الحاكم يكون شرعياً بقدر ما يكون معبراً عن طموحات المواطنين، أغلبية وأقلية بالمعنى السياسى، ومن ثم يحظى بالتأييد من قبل الموالين والمعارضين» إلى حين ثم يتم التداول.
ويعكس تطور المجتمعات كيف أن التحولات الأساسية، وبخاصة فى المجتمعات التعددية التى عرفت قدراً من التحديث / الحداثة، قد سارت فى اتجاه النظام السياسى الذى يتجاوز الولاء للجماعة الأولية سواء على أساس دينى، أو قومى، أو شمولى،… فقطعاً مهما اختلفت رؤانا حول تقييم تجربة الدولة الحديثة فى مصر، إلا أنها تعكس قدراً من التحول فى اتجاه تعميق الديمقراطية والتأكيد على الشراكة بين الحاكم والمحكومين فى إطار الدولة الحديثة.
وفى هذا السياق تكون مهمة النظام/الحاكم هى الحفاظ على الشرعية القائمة على القبول والرضا ليس على المستوى المشاعرى وإنما بالمعنى العقلى والعلمى والمؤسسى الذى يتعلق بقدرة على الحكم غير قبلية أو مزاجية أو أبوية أو مغلقة لحساب فئة.
فى ضوء ما سبق يمكن القول إن الإعلان الدستورى (نوفمبر الماضى والمعدل فى ديسمبر) بقراراته «التحصينية» و«التقييدية»، واستعداء القضاء وبتأسيسه لأجهزة موازية له، كل ذلك أدى إلى إضعاف فى الشرعية بدرجة أو أخرى. خاصة أن مجموع هذه الإجراءات قد ارتبط، شئنا أم لم نشأ، بتمرير قسرى للدستور. وهو ما يعنى تحولاً من اكتساب للشرعية يقوم على الرضا إلى شرعية تقوم على الإكراه أو ما يمكن تسميته بشرعية الإكراه، وهى تعيدنا إلى فترة فى العصور الوسطى كانت الشرعية فيها لصاحب الشوكة والغلبة الأعلى… نواصل لاحقا.