دوما كنا نؤكد على ضرورة تجاوز حصر مفهوم المواطنة فى بعدها المعنوى والمشاعرى. وعدم الاكتفاء بالتعريف الساكن والنمطى والتقليدى للمواطنة الذى يحصرها فى «الانتماء» و«الولاء»…إلخ. فبعد اطلاعنا على خبرات الآخرين وعلى الأدبيات الخاصة بالمواطنة، أدركنا أن المواطنة هى تعبير عن حركة المواطنين أو هى ممارستهم اليومية النضالية- فى تعريف اجتهدنا فيه- من أجل اكتساب الحقوق بأبعادها، وتحقيق المساواة على كل المستويات، وتأمين اقتسام الموارد العامة للبلاد فى ظل مشاركة سياسية ومدنية فاعلة وفعالة، فى سياق اقتصاد إنتاجى، ومجال عام وسياسى يتجاوز الانتماءات الفرعية.
(1)
بهذا المعنى تصبح المواطنة حركة دائمة من قبل المواطنين، لأن المساواة ليس لها سقف، ولأن المشاركة تتنوع وتتعدد أهدافها، ولأن الحقوق بأبعادها: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمدنية والثقافية منظومة مركبة فى حاجة إلى تطور وأن تتحقق لكل المواطنين. ولأن الاقتصاد فى حاجة إلى أن يكون منتجا ليضمن مواطنة حقيقية للجميع وليس لقلة. ولأن الموارد العامة للبلاد تحتاج إلى مراقبة مستمرة لضمان توزيعها توزيعا عادلا. وعليه يصبح لزاما على المواطن/ المواطنين أن يكونوا فى حالة حركة دائمة. إنها المواطنة الثورية التى لا تهدأ أو تستكين ذلك لأن الخير العام يستلزم استمرارية الحركة للمواطنين. حركة بلا سقف أو حد.
(2)
ومهما تحققت كل تجليات المواطنة من: مساواة، ومشاركة، وحقوق، وعدالة توزيعية للموارد، وتم التوافق بين كل المواطنين على ذلك من خلال ما يعرف بالدستور أو ما يمكن وصفه بالمواطنة الدستورية، فإن هذا لا يعنى أن المواطنة الثورية أو المواطنة فى بعدها الحركى تقف أو تنتهى وإنما تستمر من أجل مزيد من الخير العام الذى يصب فى مدونات دستورية وقانونية ولائحية وفى تكوينات مؤسسية، بيد أن هذا لا يعنى توقف المواطنين عن الحركة حيث:
– يستمر الجدل بين المواطنة الثورية والدستورية دون توقف طالما هناك حياة. أو بين حركة المواطنين وما يتم اكتسابه على أرض الواقع والذى يحتاج إلى تطوير ودوام التقدم ما يعنى التحرك مجددا.
(3)
إن من أهم الدروس المستفادة من تجارب الآخرين وبخاصة فى الدول و المجتمعات التى كانت تأتى خلفنا وقفزت قفزات مذهلة إلى الأمام مثل: الهند، واليابان، وماليزيا، والبرازيل، وتشيلى، وجنوب إفريقيا، وفيتنام، تقول إنها فى حالة حركية مجتمعية دائمة. حركية تعتمد على مواطنين فى حالة حركة دائمة ينجزون ويتوافقون معا ولا يعتبرون هذا التوافق نهاية المطاف وإنما يستكملون تحركهم نحو إنجاز آخر، وهكذا… فلقد انتهى زمن تقدم المجتمعات من خلال الزعيم الكاريزما، أو النظم المغلقة التى تستأثر بالحكم والحكمة، أو الأحزاب الأيديولوجية، لقد باتت المجتمعات تتقدم بالشراكة بين الجميع من خلال حصيلة الجدل بين حركة دائمة للمواطنين ومواطنة دستورية تحظى بالقبول المجتمعى، وربما من المفيد دراسة الحالة التشيلية لفهم هذه الجدلية.
(4)
أظن أن واحدة من الإشكاليات القائمة فى واقعنا السياسى الآن هى أن هناك من يرى أن المواطنة الثورية أو الحركة من أجل التغيير الجذرى قد آتت ثمارها وآن للمواطنة الدستورية أن تستحوذ بالاهتمام، وقد يكون هذا صحيحاً نسبيا، إلا أن الإشكالية تكمن فى أن التغيير لم يتحقق بالقدر الذى يرضى حركة المواطنين بل فى أحيان غير قليلة يبدو وكأننا نعيد إنتاج القديم. والنتيجة أننا وصلنا إلى نقطة تبدو وقد تباعدت كتلة المواطنين الثورية عن كتلة المواطنين الدستورية ما يعنى الصدام على أكثر من صعيد.
فى ضوء ما سبق، أقول إنه لابد من أجل الخير العام أن نقبل جيل كبار وجيل صغار، ومدنيين ودينيين، ومؤسسات وحركات، وتيارات فكرية وسياسية متنوعة… إلخ، أن نقصى الخصومة جانبا وأن نقبل بجدل المواطنة الثورية والدستورية من أجل التقدم.