أجرت «المصرى اليوم» حوارين مع اثنين من كبار الاقتصاديين المصريين: الأول مع الدكتور حازم الببلاوى، وذلك على مدى ثلاث حلقات (12 و13 و14 أكتوبر الجارى).. والثانى مع الدكتور جودة عبدالخالق (21 أكتوبر الجارى).. والقارئ للحوارين سوف يدرك كيف اتفق كل من الأستاذين على أن الاقتصاد المصرى فى حاجة إلى تصحيح المسار، هذا بالرغم من أن أحدهما ينتمى لليمين والآخر لليسار.. فقد تضمن كل من الحوارين كلاما قيما ومهماً، فى محاولة لتوصيف وتقييم السياسات الاقتصادية بشكل موضوعى ووطنى.
وظنى أن ما جاء فى الحوارين يعد من أهم ما قرأت حول الاقتصاد المصرى: حاضره ومستقبله.. وتأتى أهمية ما قيل فى الاتفاق الواضح على ما يعترى بنية اقتصادنا من اختلالات ذات تأثيرات ضارة على حاضر ومستقبل مصر المحروسة.. ففى تقييمه للخصخصة يقول الببلاوى: «أنا أعتقد أن الكثير من عمليات الخصخصة فى مصر تمت بطريقة بلدى.. حيث تمت (خَطف).. حيث عملوا قانون الأعمال كمرحلة ضبابية وسط بين قطاع عام وقطاع خاص.. فلم يعد هناك قطاع عام، كما كان فى السابق، ولم ينشأ قطاع خاص فاعل، بسبب التأثيرات الحكومية، وأظن أن هناك أشياءً بيعت بأسعار مضحكة وبعضها بيع فى الغالب، لأسباب استراتيجية، مثل بيع المراجل.. التى كان يمتلكها القطاع العام، وتكمن أهميتها فى أنها ضرورة لمن يريد عمل تطوير نووى.. لذا نستطيع أن نفسر لماذا سارعت الشركات الإنجليزية لشراء المراجل لتخرجها من يد الدولة، وبثمن مضحك».
وحول آثار ما سبق، تطرق عبدالخالق إلى السياسات التى طبقت وقد أدت إلى تنامى نسبة البطالة فى صفوف الشباب، «فالشريحة العمرية من 15 إلى 25 سنة من المصريين تتجاوز 30 %، كما يلفت النظر إلى الآثار الاجتماعية لسياسة المعاش المبكر، التى تم الأخذ بها مع الخصخصة، حيث وجدنا من ألقوا عنوة على الطريق».
وعلى الرغم من إشارته إلى أن مؤشرات النمو جيدة.. فإن الببلاوى قد أوضح بدقة كيف أن هناك مشاكل حقيقية فى بنية الاقتصاد المصرى.. فيقول: «بالرغم من أن ميزان المدفوعات أصبح متوازنا فإن هيكله ضعيف.. ضعف يدعو إلى الخوف، بمعنى أن الواردات لدينا ضعف الصادرات تقريبا فلم تزل صادراتنا (بالغة الهزال).. نستورد بحوالى 50 مليار دولار وصادراتنا حوالى 23 أو 25 مليار دولار.. ويعوض الفارق عن طريق عائد الخدمات (قناة السويس والسياحة وتحويلات العاملين بالخارج..)، أى من جراء اقتصاد لا يعتمد على جهد.. أخذا فى الاعتبار أن جزءاً من صادراتنا البالغة 23 مليارا منها 10 أو 11 مليارا تأتى من صادرات البترول.
وفى السياق نفسه، يقول عبدالخالق: إن اقتصادنا هو اقتصاد يقوم على الريع أى تداول أشياء لا تنتج وإنما معروضة، فمثلا الأرض لا ننتجها وإنما نتداولها، ومع كل دورة تداول يخلق ريع لبعض الفئات، وبالتالى هذا مجتمع يعيش على الريع.. إن مجتمعنا يقوم على رأسمالية حقيقية إنها رأسمالية مصنوعة أو رأسمالية المحاسيب».
صفوة القول: أنه فى المجمل فإن «المؤشرات العامة لميزان المدفوعات، رغم ما تحقق فيه من بعض التوازن، تقول إن ذلك مبنى على عوامل غير مستقرة.. إما على موارد ستنضب فى سنوات قريبة، أو معتمدة على ظروف خارجية.. نحن لا نراعى أن تكون بنيتنا الاقتصادية قائمة على أن ما نشتريه من الخارج ندفع ثمنه مما نبيعه للخارج، وهذا هو الوضع الطبيعى، وهو ما يمثل الخلل الأول.. أما الخلل الثانى فهو «أن حجم العجز فى الميزانية مستمر وفى ازدياد، وهذا العجز يقودنا إلى التعرض إلى مخاطر التضخم فى المستقبل».
ولعل من أهم ما طرحه الببلاوى هو أن اقتصاد السوق لا يقوم على السوق وحدها وإنما يقوم على قدمين هما: السوق والدولة.. «ومن الناحية التاريخية نجد أن الرأسمالية لم تنشأ فى القرن الـ18، لأن السوق نشأت، وإنما لأن الدولة الحديثة نشأت.. فالسوق لا تقوم إلا إذا وجدت دولة قوية، والدولة عليها مسؤوليات كثيرة فى مقدمتها وضوح المراكز القانونية.. أيضا الدولة القوية هى التى تنقذ السوق عندما تنشأ مشاكل.. بدليل تدخل الحكومة الأمريكية بشكل كبير فى الأزمة الأخيرة، لحماية المؤسسات المالية.. فالسوق ليست معناها الفوضى.. لابد أن تكون هناك سوق سليمة ودولة قوية ويقظة، لا تميز أو تنحاز».
قضايا حقيقية أثيرت باتت محل اتفاق بين اليمين واليسار على ضرورة التعامل معها.. وأظنها تحتاج إلى مؤتمر وطنى اقتصادى، لمناقشة قضايا ترتبط بوطن 80% من سكانه تحت سن الأربعين، أى أننا نتحدث عن مستقبل 65 مليون نسمة تقريبا وعن احتياجات متعددة ومركبة.. إنها قضايا فى العمق والصميم لابد أن ننشغل بها.