عجبى على العجب العجيب العجاب
لما الحقيقة تطل بعد احتجاب
وتروق وتحلا وفجأة تصبح مفيش
كمثل طراطيش بحر ياما خد وجاب
(1)
كان العبقرى المبدع صلاح جاهين سابقا بهذه الكلمات التى وردت فى إحدى رباعياته.. والتى لم أجد أفضل مما ورد فيها للتعبير عن الحقائق والمعلومات التى ترد على لسان الخبراء وحتى المسؤولين ـ السابقين والحاليين ـ حول القضايا المختلفة، كذلك فى مذكرات البعض منهم.. حيث تأخذ بعض الاهتمام، فى بعض الأحيان، أو لا نعيرها الاهتمام فى أحيان أخرى.. وفى الحالتين تكون مثل «طراطيش بحر ياما بياخد ويجيب» مثلما يقول صلاح جاهين.. على الرغم مما جاء فيها من معلومات وحقائق خطيرة تمس حياة المصريين ومستقبلهم.
(2)
فالمتابع لكثير من الحوارات التى ترد على لسان الخبراء والمسؤولين لابد أن يجد خللا ما.. ولعل ما جاء فى الحديث الذى أجرى مع الدكتور عبدالسلام جمعة حول زراعة القمح فى مصر فى جريدة «المصرى اليوم» قبل يومين سوف يفرض الجدل والحوار حول ما جاء فيه، وأتمنى ألا يفتر ويصبح «طراطيش بحر».. فالحديث يثير الكثير من الإشكاليات الخطيرة.
إشكالية أولى، تتعلق بتأخر الميكنة الزراعية فى مصر، فالزراعة فى مصر ما زالت- بحسب د. جمعة- «من المهام البدائية الشاقة التى تستهلك مجهودا عضليا من الفلاح والحيوان»، وهو أمر يترتب عليه، وهنا ننتقل إلى الإشكالية الثانية؛ ضرورة وضع سياسة سعرية تكافئ هذا الجهد وتشجع الفلاحين على أن يقبلوا على زراعة المحاصيل.
(3)
الإشكالية الثالثة، التى يثيرها الحديث، هى تأكيد الخبير أنه لا يوجد من الناحية البيئية أو المناخية أو العلمية ما يعوق زراعة القمح فى مصر، بل إن هناك إمكانية لتحقيق الاكتفاء الذاتى ليس فقط للقمح بل للذرة والأرز أيضا.. ويطرح تصوراته لذلك.. ويكون السؤال المشروع- فيما أظن- هو: لماذا التأخير فى جعل الاكتفاء الذاتى حقيقة.
(4)
ولأنه لا توجد مشكلة مستقلة عن السياق العام.. فكل مشكلة تثار نجدها تجر معها الكثير من المشاكل مما تنتمى لمجالات أخرى.. فبينما الحوار المذكور يناقش مشكلة تزايد استيراد القمح فى محاولة لتفسير ذلك.. نجده يتطرق- بالضرورة- وهنا الإشكالية الرابعة المركبة، إلى كل من قضايا: سوء التغذية والفقر والزيادة السكانية.. ويعرج الحوار بالضرورة على إشكالية خامسة تتعلق بالمستقبل فيما يتعلق بالتغيرات المناخية وضرورة استنباط سلالات جديدة والسوق العالمية التى يتوقع أن يكون ارتفاع الأسعار السمة العامة فيها.
(5)
وأخيراً وبشكل برقى يثير الحوار إشكالية سادسة خاصة بزراعة الساحل الشمالى التى من شأنها توفير مليون فدان كزراعة دائمة طوال العام وتنمية 3 ملايين فدان من مراعى واحة سيوة.. «إلا أننا فضلنا شراء طوب وأسمنت ونعمل منتجعات عشان خاطر أسبوع ولاّ أسبوعين فى السنة والمفروض إننا نفكر فى الحاجات دى بعد أن نرفع مستوى معيشة المواطن، والمشكلة الحقيقية إن الحكومة هى اللى ابتدت بالخيابة دى لما عملت مارينا».. وهنا ينتهى الحوار المهم.
(6)
واقع الحال أن هذا الحديث شأنه شأن كثير من الأحاديث التى تجريها الصحف فى الآونة الأخيرة، تحمل كلاما مهما يتضمن: المعلومة، والحقيقة، والرؤية التى يمكن أن تتجاوز بنا ما نحن عليه.. ويؤكد أن هناك ضرورة لإعادة النظر فى الكثير من السياسات التى يتم اتباعها.. وأنه لا يمكن التفكير فى أى ملف بمعزل عن باقى الملفات..
فكما رأينا، فحديث القمح يستدعى إعادة النظر فى السياسة الزراعية ككل.. كما يستدعى السياسات السكانية والصحية ومواجهة الفقر كذلك السياسة العمرانية الخاصة بالمدن والمناطق الجديدة. ما يعنى أننا فى حاجة إلى سياسة تنموية شاملة. الأمر الذى يجعل «الكلام الجد» لا يتحول إلى «طراطيش بحر».