(1) “من نحن؟”, هو السؤال الأساسى فى حديث الهوية..ويتفق كل من تناول هذه القضية من القدماء والمحدثين أن الهوية تعكس السمات العامة التى تميز شعبا أو أمة أو فردا.. بيد أن النظريات الحديثة للهوية تحذر من إشكاليتان هما:
التعامل مع الهوية باعتبارها ساكنة أو ثابتة لا يطرأ عليها أى تغيير عبر التاريخ.. فالهوية نسق مفتوح يؤثر ويتأثر ,يتفاعل, وفى الأصل يتكون ويتبلور ويصقل عبر الزمان … وعليه فإن الهوية لا تعبر عن حالة سكونية مستقرة وراسخة, بل هى حالة ديناميكية..
ربط الهوية بعنصر وحيد مثل الدين أو العرق…, أو ما يعرف بالهوية ذات “الارتبــاط الأحــادى” singular affiliation, التى تفترض- باختزالية شديدة وبتضليل قد يكون متعمد – الارتباط المفرد إلى هوية واحدة, – حصراً.. فالهوية فى الواقع تحمل الدين والثقافة واللغة والطبقة.. إلخ.
بلغة أخرى.. فمن يتحدث عن الهوية المصرية القديمة – مثلا أو أى هوية أخرى- ويحاول أن يستدعيها فى الواقع المعاصر, انطلاقا من تصور أنه يمكن استحضارها بنقائها الأول, كما هى يكون تصوره غير دقيق.. فهوية الشعوب تعكس, كالأفراد, تاريخها وتجاربها – بنجاحاتها وإخفاقاتها – وطموحاتها المستقبلية.. فى نفس الوقت, فإن حصر الهوية فى عنصر منفرد كالدين مثلاً (أو اللغة.. إلخ)..دون باقى العناصر باعتبار “هوية منفردة”، على اعتبار أن الدين وحدةجامعة للجميع بشكل ميكانيكى أمر تثبت الأيام فى الواقع أنه غير صحيح.. فمتى افترقت المصالح, بغض النظر عن الوحدة فى الدين أو العرق أو.. إلخ, تؤدى إلى اختلاف المواقف.
(2) أمران عكستهما السجلات الأخيرة حول الهوية والانتماء.. الأول هو أن الهوية حصرا دينية ومن ثم تتميز بما يعرف ” بالهوية المتفردة”.. unique identity فيشعر كل طرف عندئذ بالتميز والاستعلاء على الآخر.. ولا بأس أن يدعم كل طرف موقفه باللغة والقومية .. وهكذا نجد الإسلام العربى فى مواجهة المسيحية القبطية.. إنها فكرة الكتلة فى مواجهة الكتلة, وهكذا فى البدء كان “السجال الدينى” وتبعه “سجال الهوية”.
الأمر الذى يمنع أعضاء كل طرف من إدراك أن هناك ارتباطات أخرى (طبقية أو مهنية أو سياسية..إلخ) تجمعهم بآخرين من أعضاء الطرف الآخر, فقد يكون هناك مسيحى طبقيا ومهنيا ومن حيث الذوق الفنى, ومتوافقاً مع مسلم فى نفس الأمور.. والإذعان إلى مثيرى التوتر والعنف الاجتماعى على أيدى النشطاء الطائفيين sectarian activists وكل من له مصلحة فى إحداث التوتر لتصديق فكرة الهويات المنفردة والمتفردة.. وإعادة تقسيم الوطن إلى أسس دينية وعنصرية… وعليه نجد ” تديين الهوية”على الرغم من تفنيده علمياً فإنه يحظى بالعم من خلال التعبئة السياسية..
وبدلاً من أن نرى نصوصاً ترصد وتفسر وتحلل وتخرج بنتائج مفيدة تمثل تراكما على ما أنجزه العقل المصرى .. نجد قفزاً على الحقائق وبعداً عن فهم السياقات المنتجة للظواهر وخطفاً انتقائياً لوقائع تاريخية بما يخدم الواقع السياسى المعاصر(أعمال المونتاج للتاريخ) و أخيرا تعبئة سياسية من خلال تحالفات غريبة وشاذةلتدافع بالقوة عن الأفكار المطروحة البعيدة كل البعد عن العلم والمعرفة.. (هذه هى خطورة عدم التمييز بين الفكر والسياسة فيما يتعلق بحديث الهوية أخذا فى الاعتبار أن العلاقة قائمة.. وهذا ردى على رسالة مواطنة بلا حقوق التى علقت على مقال الأسبوع الماضى).
(3) المفارقة أن الدكتور اسماعيل صبرى عبد الله فى دراسته الرائدة “نظرة مصرية على تاريخنا الحضارى”. (نشرت بمجلة الطليعة عام 1970 وأعيد نشرها فى سلسلة المواطنة 1998).. قد نبه إلى ضرورة إعادة النظرفى دراسة تاريخ مصر بعيداً عن التقسيم الكلاسيكى.. والأخذ فى الاعتبار: حركة الشعب وعناصر حضارته المادية والفكرية”. عندئذ سوف تختلف النظرة تماما.. فالتحولات الثقافية أو الدينية أو اللغوية هى نتاج عوامل مركبة ولا يمكن الإحالة إلى عنصر وحيد .. لماذا وكيف؟ هذا ما سنتناوله الأسبوع المقبل.