(1) استطاع “رغيف العيش”, أن يثير الكثير من القضايا, ويفتح العديد من الملفات .. منها: الإستراتيجية الزراعية والغذائية لمصر وعلاقة كل منها بالسياسة الاقتصادية القومية. فالارتفاع الحاد فى الرغيف بأنواعه (الفاخر والسياحى وال…,والمدعوم)
والذى وصل فى كل الحالات إلى مائة فى المائة,ومعه كثير من السلع الأساسية فى موجة غلاء محمومة, قد أثار بشكل واضح, السؤال عن جدوى السياسة الاقتصادية التى تم الترويج لها على مدى عقود, والتى طلب من المواطنين أن يصبروا حتى تؤتى ثمارها. بيد أن النتيجة التى وضحت فى النهاية أنها لم تؤد إلا للإفقار, وهوما دفع ببعض المسئولين – قبل فترة- إلى أن يقولوا علناً إن هناك إشكالية فى عدم شعور المواطن العادى بنتائج الإصلاح الاقتصادى.
وفى واقع الأمر, باتت الرسالة التى تصل للمواطن العادى هى:
• أن الحديث المستمر عن “الاستثمار”, و”الانتعاش الاقتصادى” هو قرين “للإفقار”..
وبحسب ماورد فى تقرير البنك الدولى عن العام 2005, فإن أكثر من 3% من سكان مصر عام 2000 أى نحو 2مليون إنسان, يعيشون بأقل من دولار للفرد يومياً, أى نحو 365دولارا للفرد سنوياً, وأن هناك ما يقرب من 45% من السكان, أى نحو28 مليون نسمة, يعيشون بأقل من 2 دولار للفرد يومياً أى مايساروى 730دولارا للفرد سنوياً, أى أن هناك كتلة بشرية تزيد على نصف المجتمع المصرى تدخل, بحسب تصنيف البنك الدولى, فى دائرة الفقر.(لمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة تقرير الاتجاهات الإستراتيجية الصادر عن مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام 2006).
(2) وزاد من الشعور بالإفقار, مع تزايد الاستثمار, تدنى مستوى الخدمات وتحدياً الصحة, والتعليم الذى لم يعد مجانيا بأى حال من الأحوال, وعدم امتداد المرافق الأساسية لكثير من المناطق والتى كشفت عنها أزمة المياه التى برزت فى العام الماضى فى أكثر من منطقة. هذ بالإضافة الى أن الاستثمارات – بالرغم من الزيادة الكمية فيها – لم تستطع أن تستوعب قوة العمل التى تنضم إلى سوق العمل سنوياً, ذلك لأن نوعيتها ليست متقدمة من الناحية التقنية, فمنذ منتصف السبعينيات وحتى منتصف عام 2003, بلغت تكاليف المشروعات الاستثمارية التى أنشئت خلال هذه الفترة ما يقرب من 400 مليار جنيه, ولم تقدر أن توفر إلا مليون ونصف فرصة عمل, بحسب الهيئة العامة للاستثمار والمناطق الحرة, التقرير السنوى 2002/2003, وهو رقم فقير جداً مقارنة بالرقم الكلى للبطالة والذى يصل بحسب البنك الدولى إلى أكثر من 9 ملايين عاطل. وتكمن إشكالية البطالة فى أنها وبحسب الاقتصاديين هى إحدى الآليات الرئيسية لتوليد الفقر فى مصر.
أن الإفقار الملموس, في واقع الأمر, يتجاوز مسألة رغيف العيش إلى الأحوال الكلية للمصريين, وهو الأمر الذى يترتب عليه إعادة النظر فى السياسة الاقتصادية برمتها. خاصة مع تسريب الحديث عن إعطاء المواطنين مقابلا مادياً كبديل للدعم لمواجهة زيادة الأسعار والتى سيتم تحديدها وفق آليات السوق. وتؤكد الزيادة الكبيرة المقترحة فى الرواتب حجم التضخم فى الواقع, الذى لم تستطع الاستثمارات أن تواجهه…
(3) خلاصة القول, أن هناك ضرورة إلى فتح حوار وطنى واسع حول السياسة الاقتصادية المصرية, خاصة أن المتابع لخبرات الآخرين يجد موقفا لدول أمريكا اللاتينية أعلنته فى ديسمبر الماضى ضد سياسات الإفقار, التى تعكسها ما يعرف بروشتة صندوق النقد وغيره. كذلك فإن المراجعة المتأنية للتنمية فى كل من ماليزيا والهند والصين.., وهى دول مليارية السكان, نجدها وقد اقتربت من معدلات نمو تزيد على 10% , وتوجه استثماراتها فى مجالى الصناعة والزراعة بالأساس, وليس العقارات والخدمات…
• وهنا فقط يكون الاستثمار قادراً على مقاومة الإفقار, بزيادة فرص العمل والتصدير..إلخ.
إن تقليص الإنفاق العام للدولة خاصة فى مجالات الخدمة الاجتماعية والصحة والتعليم يؤدى إلى تفاقم المشاكل بإطراد, كما أن إعلاء قيمة السوق على حساب الدولة فى ضوء برامج الإصلاح الاقتصادى التى كان جوهرها التحرر الاقتصادى المطلق يعنى فى الواقع التحرر من الدولة, وهو أمر كارثى بكل المقاييس.., وهو ما يجعل ” الاستثمار قريناً للإفقار” من جهة, وتوفر مناخ قلق يعوق التنمية, من جهة أخرى… وهو أمر بات محل نقد فى الدول الغربية.. وفى هذا المقام نشير إلى ما كتبه فوكوياما فى كتابه “بناء الدول” State Building على أهمية استرجاع دور الدولة وإعادة بناء مؤسساتها, لتمكينه من لعب دورها الحيوى فى توجيه عمليات التنمية وحماية التماسك المجتمعى, وهو أمر لا يتناقض مع الاقتصاد الليبرالى.