مرت العملية الإدارية، تاريخيا، بعدة مراحل. وكانت كل مرحلة من هذه المراحل ترتبط بالسياق التاريخى وبالظروف المجتمعية المحيطة بها من حيث: التطور الاجتماعى والسياسي، والنموذج الاقتصادى المتبع، وعلاقات الانتاج القائمة، والطبيعة الطبقية للجهاز الإدارى نفسه أى ممن يتشكل، ولطبيعة العلاقات المجتمعية وللقيم السائدة فى المجتمع..، إلخ.
وعليه يتشكل الجهاز البيروقراطى من حيث: طبيعته، وتحيزات وسلوكيات عناصره، وقدرته على تلبية ما يكلف به من مسئوليات ومهام، وفى أى اتجاه ينفذها ولصالح من، وعائدها،…،إلخ. أى أن الجهاز البيروقراطى أو الإداري، فى المحصلة، هو نتاج اللحظة التاريخية. حيث تتحكم موازين القوى السائدة، فى هذه اللحظة التاريخية، فى توجيه البيروقراطية فى الاتجاه الذى تريده والذى يعكس بالضرورة مصالح ما.
فى هذا المقام، رصدت أدبيات المواطنة، كيف تطورت الإدارة تاريخيا. وأن المصطلحات المتعاقبة التى تصف العملية الإدارية وجهازها التنفيذى هى أعمق من أن تكون مفردات لغوية. وإنما هى تعبير عن نضالات المواطنين، من جهة. وعن مدى التطور المجتمعى ومن ثم الحاجة إلى التطور، من جهة أخري. فى هذا المقام، يمكن رصد أربع مراحل تاريخية لتطور العملية الإدارية كما يلي:
أولا: الإدارة العامة القديمة Old Public administration؛ وقد ارتبطت بواقع مجتمعى بسيط فى علاقاته. كما كان شكل الحكم الساسى غير معقد حيث السلطة يتحكم فيها فرد أو عائلة. وكان ينظر للجمهور (الناس)باعتبارهم”رعايا”. ولم يكن الأمر يحتاج سوى “إدارجى شاطر” لتيسير الإدارة وخاصة إذا ما كان عائدها يتجه لخدمة “مولانا” تحديدا.
ثانيا: الإدارة العامة الجديدة New Public Management؛ مع تعقد المجتمع وتطوره فى اتجاه التصنيع وتبلور طبقات اجتماعية، وعلاقات مجتمعية ذات مصالح واضحة، من جانب. كذلك الاتساع فى انشاء المدن بما تتضمن من مرافق، وبنايات دائمة التطور، ومساحات وفراغات..، إلخ. ما فرض أن يتطور الجهاز الإدارى ليلبى احتياجات الفرد الجديد الذى تحرر قليلا من “ولى الأمر” الذى كان يملك كل شيء. ما استدعى استقلاله إلى ان يلبى الجهاز الإدارى احتياجاته قدر الإمكان… لذا نلاحظ أن كلمة إدارة باللغة الإنجليزية قد صارتManagement، لتعبر عن المدى الذى تعقد به المجتمع اقتصاديا وتقنيا. ما استدعى تطوير الإدارة. ونشير هنا إلى أمرين هما: الأول: أن مفهوم الصالح العام قد بدأ مع ميل للتحيز الإدارى لصالح من يملك على حساب من لا يملك. الثاني: أن القائمين على الإدارة فى هذه المرحلة كانوا ينظرون إلى الأفراد “كزبائن”.
ثالثا: الخدمة العامة Public Service؛مع تنامى الاهتمام بالسياسات الاجتماعية، والسعى لتحقيق المساواة والعدالة لجميع أفراد المجتمع، أعيد النظر فى مفهوم ودور وأهداف الجهاز الإدارى باعتباره جهازا للخدمة العامة للمواطنين.
رابعا: الخدمة المدنيةCivic Service ؛ فى مقابل السياسات الاجتماعية المتنامية، نشطت التكوينات المدنية وتوالت الأجيال الحقوقية، وتنوعت فى مساحات اهتمامها. كما زاد الوعى بفكرة الصالح العام وقيمة المواطنة ومن ثم المواطن “كشريك” فى “الحكم والثروة العامة للبلاد” بغض النظر عن أى اختلافات. وعليه كان على الجهاز الإدارى أن يستجيب لهذه التحولات العميقة التاريخية المجتمعية. فولدت فكرة” الخدمة المدنية” والتى يصبح بموجبها الجهاز الإدارى “خادما للمواطنين. وبالمناسبة “خاضعا لمحاسبتهم”؛ فى آن واحد.
ووصف الجهاز الإدارى “بالمدني” يعنى أنه بات جزءا من التحول الحادث فى المجتمع وحاملا للقيم الجديدة التى نتجت عن هذا التحول ومجسدا لها عمليا. فلم يعد الجهاز الإدارى هو الجهاز الذى يعمل عبر الوسطاء، أو ينجز احتياجات المقربين، والنافذين، أو الآمرين..، إلخ. أو خادما لسلطة أو طبقة، أو شريكا لها. كما بات الفرد مواطنا لا زبونا أو تابعا.ونضيف أن “مدنية” الجهاز الإدارى تعنى علميا ـ أن تصبح المنشأة الإدارية منظومة ديمقراطية لا شركة اقتصادية ولا “تكية” خاصة. وما يصلح فى تطوير البيزنس يمكن الاسترشاد به ولكن لا يمكن أن نستنسخه فى إصلاح الجهاز الإدارى الذى يملك مقدرات دولة بكل أبعادها ومجالاتها.
فى ضوء ما سبق، يتضح لنا أن المصطلح هو تعبير عن حركة فى الواقع. وعليه لابد أن يكون انعكاسا لهذه الحركة. كما أن استصدار قانون يحمل اسما أو مصطلحا جديدا فإن ذلك لا يعنى تلقائيا أن الإصلاح الإدارى سوف يتحقق. خاصة إذا ما كان القانون فى مجمله: إجرائيا، وتقنيا، وشكليا. كما لايعكس بوضوح مفهوم وفكرة الخدمة المدنية وتطبيقاتها المختلفة فى دول المنشأ اى صاحبة الاختراع.
فلم يعد كافيا أن نستعير “المصطلح” أو “النموذج” دون قيمه وأفكاره وكأننا نستورد سيارة. فالمصطلح ابن بيئته…واستعارته تحتاج إلى أن نطبقه وفق خطوات منهجية تأخذ فى الاعتبار: تاريخية الجهاز الإدارى الوطني، وما أصابه من عطب ولماذا، كيف يمكن أن نروج لمفهوم الخدمة المدنية بحسب مجموع القيم التى تميزه…هكذا فعلت دول كثيرة وعلى رأسها انجلترا.. فى تكوين “نموذج الخدمة المدنية” الإداري…ونتابع.