لم يزل الحوار حول ثنائيات: الزمنى والديني، المقدس والتاريخي، المطلق والنسبي، فى الفكر الإنسانى المعاصر، وتحديدا الأوروبي: قائما بفاعلية وحاضرا بقوة. فعلى غير ما هو شائع، بأن الثقافة الأوروبية قد حسمت الجدل حول هذه الثنائيات بالعلمنة المطلقة. فإننا نجدها معنية، ومهمومة، ومنشغلة، بطرح الأسئلة وفق ما يستجد من ظواهر على أرض الواقع الإنسانى داخل الجغرافيا الأوروبية أو الكونية. انطلاقامن أنه لا توجد “إجابات نهائية”…
خاصة وأن الدين قد شهد أربعة تجليات كبيرة فاعلة ومؤثرة فى خيارات ومسارات الجماعة الإنسانية الكونية ـ دون استثناء. على مدى عقود القرن العشرين وإلى الآن. وما ترتب على ذلك من إشكاليات كونية سياسية وفلسفية وثقافية واجتماعية، ولا أظن الاقتصاد بعيدا عن كل ذلك. حيث إن التاريخ يشير إلى أن التحولات الاقتصادية الكبري، فى القرن المنصرم وإلى يومنا هذا،قد نجم عنها تناقضات وصراعات واكبتها هذه التجليات، بصورة أو أخري…وبداية نرصد هذه التجليات…
التجلى الأول: الحركات الدينية التى انحازت للفقراء والمستضعفين والمهمشين، وناضلت من أجل قيم العدل الاجتماعى ومواجهة الظلم والقهر السياسى والاجتماعى (حركة على شريعتى فى إيران، وحركة لاهوت التحرير فى أمريكا اللاتينية، وحركة المسيحية الجديدة فى الولايات المتحدة الأمريكية، وحركة غريغوار حداد فى لبنان، وحركات لاهوت الأمل والرجاء والتحرر فى أوروبا).
التجلى الثاني: الحركات الدينية التى عنيت بالأخلاق ومواجهة الكوارث التى جرتها الحداثة على الإنسان المعاصر من تفكك أسرى وتلاعب بالسنن الإلهية (اليمين المسيحى الجديد فى أمريكا، الاتجاهات المحافظة فى الثورة الإيرانية والفاتيكان، الحركات الإسلامية الجهادية والسلفية فى منطقتنا).
التجلى الثالث:الحركات الدينية التى عنيت بالجوانب القيمية والرعائية والإرشادية والوعظية ومحاولة لعب دور وسطى بين التجليين الأول والثاني.والانخراط فى حلقات الحوار الدينى والثقافى والحضاري.
التجلى الرابع: الحركات الدينية “العنفية”. والتى تدرجت فى عنفها من عمليات متناثرة هنا أو هناك، إلى عمليات مخططة تقترب فى سلوكها وهيكليتها وتخطيطها وتنفيذها من الجيوش النظامية. كما تدرجت نوعية تسلحها من البدائية إلى البالغة التقدم.
شكلت التجليات الأربعة السابقة واقعا بالغ التعقيد. حيث تداعت الحدود المادية والمعنوية، وتداخل ما هو سياسى مع ما هو ديني، وما هو تقليدى مع ما هو حداثي،…،إلخ. وكان لهذا تأثيره على حياة البشر. ما استلزم إعادة طرح أسئلة معرفية جديدة حول الإشكاليات المستجدة التى تجاوزت ـ قطعا ـ إجابات هيجل، ودوركايم، وفيبر، وبتازوني، وفان درلووي،…،إلخ، دون استبعادها، فى محاولة لـتأسيس علمى جديد وفق المستجدات.
-فى هذا السياق، وفى إطار الحيوية الذهنية العلمية والمعرفية. أصدر عالم الاجتماع الإنجليزى برايان تيرنر (1945 ـ ، أحد أهم علماء الاجتماع المعاصرين ومحرر الدورية الفصلية دراسات المواطنة وقد عرفنا به الكاتب العربى مبكرا من خلال طرحه المهم لمفهوم: المواطنة الثقافية”)، كتابان فى عامين متتاليين حول قضية الدين والسياسة هما: الأول: الدين والمجتمع الحديث: المواطنة، والعلمانية، والدولة ـ 2012″. الثاني: “الدينى والسياسى 2013”. فى هذين الكتابين يطرح رؤية تتحرر قليلا من الطروحات “الحدية” التى تتناول قضية العلاقة بين الدين والسياسة بمنطق: “الدين أم السياسة ـ السياسة أم الدين”. وعليه، رصد من جهة، حصاد “الاستعارات والتدخلات” التى حدثت من أنظمة تدعى العلمانية وظفت الدين لصالحها، وجماعات توحدت بالهويات الدينية مارست السياسة بغير أخلاق.وما نتج عن ذلك من تداعيات شديدة الكارثية مثل: الحروب، والصراعات المذهبية والدينية، والتراجع الحضارى والعلمي،…إلخ. كما يرصد تيرنر، من جهة أخري، ظاهرة الفصل بين الدين والدولة كما تجسدها ـ بنقاء ـ الحالة الفرنسية. وفى المقابل، التشدد فى الدمج بينهما فى سياقات أخري، إسلامية بالأساس. وإن هذا لم يمنع أن تكون هناك تفاعلات ما، بدرجة أو أخرى بين ما هو سياسى ودينى فى المجال العام. كان لها تأثيرها فيتغير طبيعة ما هو دينى وما هو سياسى ومن وسائلهما ومن طرق حضورهما فى المجال العام: السياسى والمدنى والثقافي.
فالتحولات التى شهدها العالم من: توحش رأسمالي، وسيادة نموذج السوق العابر للحدود (بالمعنى الاقتصادى والتجاري)، والتغير الجذرى فى تركيب المجتمعات بفعل التداخل الحاد بين أنماط التحضر، وتشكل بُنى عمرانية لم تعهدها المجتمعات التقليدية من قبل. وما أتاحته تكنولوجيا التواصل الاجتماعى من إلغاء للزمان وللمكان”، ومن ثم لم يعد “البعيد بعيدا ويمكن إحضاره فى أى وقت”،…،إلخ. كل ذلك قد اوجد ما يطلق عليه تيرنر: “حراكا مجتمعيا” مركبا؛ غير مسبوق فى تاريخ الإنسانية. ما يلزمنا أن نعيد النظر فى كل الأفكار التى عرفناها. ذلك لأن هناك واقعا جديدا لم يعرفه دوركايموفيبر، ولا علماء الأنثروبولوجيا والسياسة،…،إلخ. زمن ما بعد العلمنة، والتجليات الدينية التاريخية، وبالطبع زمن التدخلات والاستعارات بين السياسى والديني…نحن أمام تشكل جديد للعلاقة المستقبلية بين السياسى والديني… فما مقوماتها؟ وطبيعتها؟… ونتابع…