فى نهاية الثلاثينيات، عرض فيلم عنوانه: «السيد سميث يذهب إلى واشنطن» للمخرج الأمريكى الشهير(الإيطالى الأصل)، فرانك كابرا. حيث قدم الفيلم السيد سميث (الذى قام ببطولته جيمس ستيوارت) باعتباره نموذجا للمواطن الأمريكى الذى شعر مع احتدام الأزمةالاقتصادية آنذاك، بآلام الملايين الذين يعانون الفقر. وكيف كان لديه من الوعى أن يدرك من المتسبب فى هذه الأزمة التى تكاد تنهى الحلم الأمريكي. إنهم القلة الثروية التى لا يحركها إلا الجشع. فكان قراره أن يواجهها من خلال الانحياز للناس وتأمين المساواة لهم.
لقد جسد الفيلم ما فعله فرانكلين روزفلت الرئيس الاستثنائى للولايات المتحدة الأمريكية، فى الواقع، للفقراء وذلك بحصار الاحتكاريين وتحجيم جشعهم.
إلا أن ما قام به روزفلت تحت عنوان «الصفقة الجديدة» وتطبيقه سياسات اقتصادية ذات طابع اجتماعي، لم يدم طويلا. واتجهت أمريكا نحو سياسات اقتصادية أدت فى النهاية إلى ستة اختلالات كبيرة عرضنا لها فى الأسبوع الماضى وهي:أولا: توزيع الثروة. ثانيا: المساواة بين طبقات المجتمع. ثالثا: تأمين وصول الخدمات العامة بين المواطنين الأمريكيين دون تمييز. رابعا: صيانة واحلال وتجديد المرافق العامة والبنية التحتية فى كل الولايات الأمريكية. خامسا: توفير الحماية الاجتماعية المطلوبة من خلال تطبيق صارم للأنظمة التأمينية المتنوعة على كل المواطنين. سادسا: اندماج الإثنيات المختلفة فى المجتمع الأمريكي…
وأسقطت الأزمة المالية الأخطر فى 2008 ورقة التوت التى كانت تغطى على هذه الاختلالات الستة على مدى عقود. كما كشفت عن جشع القلة الثروية الذى فاقم الأحوال الداخلية فى الدولة التى كانت تعد نفسها لتكون إمبراطورية أوعلى الأقل قوة عظمى وحيدة كونية. إلا أن الداخل المتآكل والمختل لم يمكنها من ذلك. لذا باتت الحاجة ملحة إلى «مستر سميث جديد يواجه الأزمة الجديدة المتجددة… شريطة أن يكون أكثرتقدمية وراديكالية من سميث الثلاثينيات»… ومن النماذج الرئاسية الثلاثة التى عرفتها أمريكا (عرضنا لها فى الحلقة الأولى من هذه السلسلة)… ولكن، راديكالية بأى معنى؟
القدرة على مواجهة ما قررته القلة الثروية عقب موت روزفلت من: أولا: عدم إجراء أى توزيع راديكالى للثروة أو القوة. ثانيا: منع الناس من تحدى النخبة الاحتكارية، كما جرى عقب أزمة الثلاثينيات،فهو أمر لا ينبغى أن يتكرر…
لذا كان لابد من رئيس، يكون قادرا، بالإضافة لامتلاك الحس الاجتماعى مثل روزفلت وكما جسده «مستر سميث» على اتخاذ قرارات راديكالية لصالح المواطنين. والأكثر أن يضع القواعد المانعة للارتداد عنها فلا يتكرر ما جرى مع روزفلت بالانقلاب على سياسات الصفقة الجديدة الكينزية، من خلال ليس فقط الحديث باسم المواطنين الفقراء وإنما أيضا «تعبئتهم». بالإضافة إلى تمتعه بقدرات تحليلية لفهم وتفسير ما طرأ على بنية المجتمع الأمريكي. وإلى أى مدى بلغ «الانقسام» مداه فى المجتمع الأمريكى بحسب التعبير المستخدم فى الكثير من الدراسات ـ وتحديدا فى المجالات الثلاثة الآتية: الطبقية، والاقتصادية، والثقافية.
وعليه،كان على أوباما أن يواجه ثلاث مسائل متداخلة هي:الطبقية والاقتصادية والثقافية. فانطلق من رؤية تقوم على ما يلي: أولا: إن احداث التغيير وضمان استمراريته يكون بتعبئة الناس على المستوى القاعدى الشعبي. ثانيا: الربط بين أشكال الاحتجاج التقليدية كما اختبرتها حركة الحقوق المدنية تاريخيا وبين قواعد اللعبة السياسية بمعناها المركب وليس السطحي، وأهمية أن يتوافر الفهم الاجتماعى اللازم لإدراك طبيعة العلاقات الاجتماعية بين فئات المجتمع. ثالثا: ضرورة استعادة الطبقة الوسطى فى هذه العملية المجتمعية بمواطنيها من السود والبيض. خاصة أن تعاظم التفاوت الاجتماعى منذ عهد ريجان،أدى إلى ضياع هذه الطبقة…أو بحسب أحد الباحثين «الطبقة المفقودة/ الضائعة»…
فى هذا السياق، قام بثلاث خطوات غير مسبوقة فى تاريخ أمريكا، وذلك كما يلي: الأولى: مراجعة الميزانيات الحكومية والتأكيد على مراعاة البعد الاجتماعى بنشر مظلة التأمين الصحى لكل المواطنين بميزانية تريليونية، وتطبيق تخفيض ضريبى لـ95% من المنتمين للفئات الوسطى. كذلك إعمال قانون أمريكى لم يفعل قط يحق بموجبه للرئيس/للبيت الأبيض التدخل فى مراجعة ميزانيات الشركات الاحتكارية المتعددة الجنسيات،…،إلخ. أما الخطوة الثانية فكانت: إعادة الاعتبار للطبقة الوسطى وتقويتها. فقوة الطبقة الوسطى تعنى قوة الولايات المتحدة الأمريكية…A strong middle class equals a strong America… وتشجيعها على تنظيم نفسها من خلال الاتحادات والروابط والنقابات التى تم تحجيمها تاريخيا…فلا تعود تستكين، أو «تهرب من مواجهة الواقع بالتدين المفرط» بحسب أوباما… وكانت الخطوة الثالثة التعامل بشفافية كاملة مع أزمات الإثنية السوداء المتصاعدة والتى لم تنته بعد فى أمريكا. وهو ما كشفت عنه أحداث العنف المتعاقبة فى السنتين الماضيتين…
لم يكن الأمر سهلا…فالمؤسسات الثروية الحاكمة التى سعت لإدراك نموذج رئاسى جديد لاستيعاب الاختلالات الستة الكبرى والانقسامات المتنامية هى نفسها التى تقاوم حدوث تغييرات جذرية… إلا أن تحولات الداخل الأمريكى حادة وجادة…ولاشك أن أوباما ـ رغم أية ملاحظات ـ قد أطلق «مارد» التغيير… ونتابع…